شهدت حركات التعبئة ضد استقلال كاتالونيا ذروتها، يوم الأحد 8 تشرين الأول/ أكتوبر، بتنظيم تظاهرة شارك فيها مئات الآلاف من الأشخاص. تظاهرة تحدّد وتوضح التوترات بين الانفصاليين وأنصار تقرير المصير وتلوّح بشبح نزاع أهلي. إنّ استفاقة الأغلبية الصامتة في كاتالونيا تزيد من حدّة التوتر الذي غذّاه التعاطي العنيف والقمعي مع الأزمة من قبل سلطات مدريد.
من جهته، أكّد الملك فيليبيه السادس، الذي خرج من حياده الاعتيادي، في خطابه يوم 3 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، دعمه لحكومة ماريانو راخوي. وفي خطابه الذي حمل صرامة استثنائية، أعلن أنّ الدولة هي التي تضمن النظام الدستوري في منطقة تزعم «إعلان استقلالها بشكل غير شرعي». وصرّحت مدريد، بواسطة وزير العدل الإسباني، بأنها سوف تلجأ إلى استعمال كل الطرق الشرعية لإيقاف العملية الاستقلالية الزاحفة، إذ يمكن لرئيس الوزراء الإسباني الاستعانة بالمادة 155 التي تعطي الحكومة الصلاحيات لفرض احترام الواجبات الدستورية لإقليم ما، عندما «يمسّ هذا الإقليم مساساً خطيراً بالمصلحة العامة للدولة». إنّ فتيل تفجير الأزمة كان الاستفتاء المنظّم في الأول من تشرين الأول، من طرف سلطات كاتالونيا بهدف إعلان استقلال المنطقة. حتّى وإن كانت الأغلبية الساحقة من المصوّتين (90 في المئة) قد صوّتت لمصلحة تقرير المصير، على خلفية تعبئة هائلة كرد فعل على موقف الحكومة الإسبانية التي حاولت عرقلة إقامة استفتاء اعتبرته غير دستوري، ظلّت نسبة المشاركة ضعيفة، أي أنها وصلت إلى 42 في المئة فقط. إلّا أنّ هذه الأزمة المفتوحة بين الحكومة الكاتالونية والسلطة المركزية، التي أخذت منعطفاً غير مسبوق بضخامته، ليست جديدة، وهي راجعة إلى نوائب ومصائب تشكّل وتطور السيرورة الاستقلالية الكاتالونية.
إنّ الإرادة الاستقلالية لكاتالونيا تنغرس ضمن تاريخ طويل، واشتدادها اليوم يفسّر جزئياً على الأقل بالنزاع مع الدولة المركزية، والنتائج الكارثية للأزمة المالية في عام 2008. ورغم أنّ لهذا التطلع إلى الاستقلال عمقاً تاريخياً، إلّا أنه لم يمثل أبداً خيار الأغلبية داخل الحركة القومية الكاتالونية، حتى عندما صارت هذه الحركة سائدة مع انتهاء حكم أيديولوجيا فرانكو، وبداية الانتقال الديموقراطي. تثمّن القومية الكاتالونية، منذ نشأتها في القرن التاسع عشر، الثوابت نفسها: الاعتراف بالهوية، باللغة وبالأمة الكاتالونية، والمطالبة بحكم ذاتي إداري وسياسي. لقد ولدت القومية الكاتالونية أوّلاً، مثلما يذكّرنا به المؤرخ الإسباني خوسيه آلبارث خونكوJosé Alvarez Junco في مؤلّفهL’idée d’Espagne. La difficile construction d’une identité collective au XIXe siècle (فكرة إسبانيا. البناء الصعب لهوية جماعية في القرن التاسع عشر)، في سياق الازدهار الثقافي لكاتالونيا وانتقالها نحو الحداثة. لقد ظهرت تلك القومية كرد فعل على الأزمة الاقتصادية والسياسية لإسبانيا القرن التاسع عشر، وفشل الدولة المركزية في إنتاج أيديولوجيا دامجة وبناء هوية وطنية متفق عليها. إنّ تدهور إسبانيا كقوة استعمارية، في نهاية القرن، ومحاولات الزعزعة داخل البلد ونشاط اﻷناركيين (في تسعينيات القرن التاسع عشر)، بالإضافة إلى حلقة القمع الوحشي التي تلته (دعوى مونتجويك)، شكّلت عناصر انتشار التطلعات القومية داخل البورجوازية الكاتالونية أمام المركزية السلطوية للدولة. يقدّم القوميون أنفسهم كبديل مغيّر في نظام سياسي مقفل، منذ توقيع اتّفاق الباردو في عام 1885، والذي يجعل من التداول السياسي حصراً على الحزبين الليبرالي والمحافظ. وإنّ ضعف الصدى الاشتراكي في كاتالونيا، واعتبار هذه الأيديولوجيا شريكة الدولة المركزية الاتحادية، يفسّران أنّ «العمّال استقبلوا بشكل أفضل الفيدرالية الراديكالية، التي دعت إليها اﻷناركية النقابية والشعبوية». وإنّ تغير السياق السياسي والانتصار الانتخابي للائتلاف التضامني الكاتالوني (بين القوميين المحافظين والكاتالونيين اليساريين)، بعد التظاهرات الشعبية الكبيرة في عام 1906، جعلا القومية الكاتالونية تتحوّل حقّاً إلى حركة ضخمة. ويصف ستيفان ميشونو في مؤلّفهBarcelone, Mémoire et identité 1830-1906 (برشلونة، ذاكرة وهويّة 1830-1906) تلك الحلقة، حيث يذكّر بأنه «في تشرين الثاني/ نوفمبر 1905، قام جنود أغضبهم رسم كاريكاتوري يسخر من الجيش، بنهب وتخريب مقر كوكوت! Cu-Cut!، وهي جريدة هزلية شهيرة ومقر «لافيو دي كاتالونيا»، وهي جريدة جهوية. أما الحكومة، فعوض الدفاع عن حرية الصحافة، قامت بإصدار ما يسمى الـley de juridicciones، أي قانون الصلاحيات الذي يسمح للمحاكم العسكرية بالحكم في «الجرائم ضد الجيش والوطن». أثارت القضية ضجة كبيرة وحفّزت اتحاد الجهويين وجزءاً من الجمهوريين المدعوين «تضامنيين». وكان ذلك الائتلاف أول حركة ضخمة في تاريخ الكاتالونية السياسية.
دخلت، حينها، الحركة القومية الكاتالونية في منطق تحالف، وتمّ استبدال تلك البراغماتية، التي دامت إلى غاية انقلاب بريم ودي ريفيرا في عام 1923، بردكلة (جعلها راديكالية) الحركة بعد التحاق اشتراكيي الحزب الاشتراكي الإسباني والبورجوازية الكاتالونية بالدكتاتورية، وبسياسة قمع القومية الكاتالونية، من خلال حظر اللغة والعلم وإلغاء الإرساليات الإقليمية. فتنظم القوميون الراديكاليون في المنفى، وشكّلوا لأول مرة لجنة ثورية حاملة لمشروع كونفدرالية إسبانية، وظل الخيار الانفصالي، الذي تمّ التفكير فيه، من دون نتائج سياسية. ثم مع أزمة الحكم الملكي في عام 1930، التي أتت بالتغيير في ميزان القوى، رجعت القومية الكاتالونية إلى استراتيجية التحالف والتحقت بالقوى الجمهورية والاشتراكية للتفاوض حول حدود تحركها والدفاع عن مصالحها. وتم توقيع التحالف بواسطة اتفاق سان سيباستيان، بتاريخ 17 آب/ أغسطس 1930، مقابل الحصول على حكم ذاتي بالنسبة إلى كاتالونيا فرانسيسك ماسيا، الذي تخلّى عن المطالبة بتقرير المصير. وتم الحفاظ على هذا الحكم الذاتي المتفق عليه في يوم 2 آب/ أغسطس 1931، من خلال استطلاع الرأي العام الكاتالوني إلى غاية قطيعة عام 1939، ودخول حكم أيديولوجيا فرانكو الساحة. وكان للقمع الرهيب، الذي استهدف حينها مجموع القوى السياسية اليسارية، بدءاً من اﻷناركيين والاشتراكيين، ليشمل الشيوعيين، صلة في إعادة هيكلة حركة دفاع عن الهوية الكاتالونية، استمدت من التيارات السياسية للكاثوليكية. وبعد الفترة الاعتراضية الطويلة لحكم أيديولوجيا فرانكو في إسبانيا، وحلول الانتقال الديموقراطي، اعترف أخيراً بتشريع الحكم الذاتي لعام 1979، المصادق عليه مباشرة بعد الدستور الجديد سنة 1978 في كاتالونيا كمنطقة ذاتية الحكم. بعدها تمت إعادة الجينراليتات، وهي التنظيم السياسي للمنطقة الذاتية الحكم التي كان فرانكو قد ألغاها، وتمت إقامة حكومة جديدة. إنّ تاريخ الحركة القومية يظهر أن الخطاب الانفصالي قد استعمل كوسيلة للضغط في المفاوضات مع الحكم المركزي، للدفاع عن مصالح القومية الكاتالونية أكثر من استعماله كمطلب للأغلبية. إنّ أوساط البورجوازية قد همّشت لفترة طويلة، الاتجاه الاستقلالي الذي يحمله جزء من اليسار. ولكن اقتران العوامل السياسية، الاقتصادية والاجتماعية، على خلفية الأزمة، سوف يعزّز التيار الاستقلالي للأقلية الذي يلقى خطابه التقدمي صدى واسعاً، وسط المجتمع الكاتالوني المحروم.
والواقع أن الصراع الكامن مع الحكومة المركزية، زاد حِدّة في عام 2006، أي بعد عام واحد على اعتماد نظام الحكم الذاتي الجديد، الذي وافق عليه البرلمان الإسباني والاستفتاء. ورغم شرعيته البرلمانية والشعبية، فإن اليمين، الذي يسيطر عليه الحزب الشعبي، شنّ هجوماً من خلال الطعن أمام المحكمة الدستورية لبت الوضع الدستوري لهذا النص القانوني. فإذا كانت المحكمة الدستورية قد أقرّت له معظم النص، في تموز/ يوليو 2010، فإنها ألغت عدة مواد تعتبر مخالفة للدستور. ومن بين المواد الأكثر رمزية، ستكون المادة 8 المتعلقة بالاعتراف القانوني بالأمة الكاتالونية مخالفة للمادة 1 من دستور عام 1978، التي تنص على أن «السيادة الوطنية ملك للشعب الإسباني»، والمادة 2، التي تنص على «وحدة الأمة الإسبانية، وطن مشترك وغير قابل للتجزئة لجميع الإسبان». ورأى القضاة أيضاً أن التمييز الإيجابي لمصلحة اللغة الكاتالونية يتناقض مع الدستور الذي يعترف باللغة القشتالية كلغة رسمية في جلّ البلد. رفض المحكمة الدستورية لهذه الخطوات الملموسة نحو الاعتراف بـ«الأمة الكاتالونية» لا يخلو من عواقب تطرف الجهة المطالبة بالاستقلال. ولكن خلف الصراع السياسي والصراع حول الهويّة، ازدادت الميول إلى فكرة الانفصال والاستقلال، نتيجة الأزمة الاقتصادية والسياسية التي شهدتها إسبانيا، ولا تزال منذ عام 2008. ومن دون إعادة ذكر البيانات والمعطيات الاقتصادية، التي تعبّر عن مدى الكارثة، من الجدير بالذكر أن الدخل الصافي الوطني لإسبانيا انخفض 7.8 في المئة، بين عام 2008 ونهاية عام 2013. وأصبحت الطبقات الوسطى والشعبية أكثر فقراً، وإسبانيا ثاني أكبر دولة لا تتحقق فيها المساواة في الاتحاد الأوروبي بعد بريطانيا. وفي أوائل أغسطس/ آب 2008، تسببت خطة التقشف التي يروّج لها صندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي، والتي اعتمدتها حكومة خوسيه ثاباتيرو، في كارثة. شملت الحلول التقشفية تجميد مناصب الوظيفة العمومية، وتخفيض رواتب مستخدميها بنسبة 5 في المئة؛ ورفع ضريبة القيمة المضافة، وتجميد المعاشات التقاعدية، وزيادة سن التقاعد إلى 67 سنة، بالإضافة إلى إلغاء جميع المكاسب الاجتماعية التي تمّ الحصول عليها، بموجب التشريع السابق. لقد خسر حزب ثاباتيرو صدقيته، ومُني بسبب اعتماده سياسة التقشف، بهزيمة فادحة خلال الانتخابات الإقليمية والبلدية، في عام 2011 (28.7 في المئة، مقابل 43.8 في المئة عام 2008). أمام عجز الاشتراكيين عن معالجة نتائج اﻷزمة، وغياب بديل سياسي ذي صدقية، أصبح الشباب يقدّر مدى ثقل الحمل الذي يرهن مستقبله، ما جعل هذه الفئة تثور. مهّدت فترة الغليان الشعبي هذه، السبيل للعديد من الحركات على غرار«الغاضبين»، المتظاهرين في ساحة كاتالونيا في برشلونة وساحة بويرتا ديل صول في مدريد. وتتجسد كذلك هذه الرغبة في التغيير، ببروز أحزاب جديدة، مثل بوديموس والصعود القوي لحركة اجتماعية استقلالية في كاتالونيا.
لكن هذه الحركة الاستقلالية، التي تعزّزت بفضل الأزمة ليست متجانسة، بل هي حركة تحوي شرائح من الطبقة البورجوازية، وأخرى من الطبقات الشعبية، لكن دعامتها الأساسية تبقى الطبقات الوسطى. تبقى إذاً القومية القاسم المشترك لجميع الأطراف، ما يسمح بتجاهل التناقضات الطبقية لفترة معينة، بجمعها بين كل من اليمين القومي الكاتالوني ويسار الوسط الاستقلالي، الذي أخذ تدريجاً السيطرة على الحركة، تقدّم عملية الاستقلال في قراءة مبسطة، باعتبارها تمرداً من المنطقة الأكثر ديناميكية اقتصادياً، بمعارضتها لتسيير يسمح للمناطق الفقيرة في إسبانيا بتدارك فقرها. إن الأزمة الاقتصادية أدت إلى تفاقم الشعور بالظلم الضريبي، الذي يشعر به الكاتالونيون، الذين يعطون الحكومة المركزية أكثر ممّا تقدّمه لهم، لكنها لم تكن إلا مسرّعاً للمواجهة بين التقاليد الوطنية العلمانية الكاتالونية والاستبدادية المركزية للدولة. وقد استفاد التوجه الاستقلالي، الذي لم يكن أبداً الخيار التاريخي المهيمن، من عواقب الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وأزمة الأحزاب التقليدية، وتفتيت المشهد السياسي من أجل فرض نفسه. وفي هذا السياق، جذب الخطاب التحرري لـ«الحق في اتخاذ القرار» قطاعات واسعة من الرأي العام الكاتالوني.
إن عزم القادة الانفصاليين، اليوم، على استخلاص استنتاجات من نتائج الاستفتاء وإعلانهم الانفصال، رداً على التعاطي القمعي المتزايد لهذه اﻷزمة من طرف الحكومة المؤيدة من طرف ملك إسبانيا، أدى إلى معادلة مجهولة المعالم. ففي حين دعت الحركة الاستقلالية الاتحاد الأوروبي، في منتصف أيلول/ سبتمبر، إلى اتخاذ موقف بشأن استفتاء اﻷول من تشرين الأول/ أكتوبر حول تقرير المصير، أعلنت المفوضية عدم كفاءتها للحكم على القانون الدستوري الوطني، وكررت احترامها لقرارات المحكمة الدستورية والبرلمان الإسباني اللذين كانا قد أعلنا عدم دستورية وعدم قانونية الاستفتاء. ولذلك، من الواضح أنه في حالة الانفصال الأحادي، لن تتمكن كاتالونيا من التعويل على دعم الاتحاد الأوروبي. ومن جهة أخرى، فإن إعلان الاستقلال سيؤدي حتماً إلى تعزيز التدابير القمعية وسيجعل الوضع أكثر قابلية للانفجار، في سياق ترفض فيه أغلبية الكاتالونيين تقرير المصير. وعلاوة على ذلك، فإن خيار الاستقلال سيثير عملياً صعوبات كبيرة. إذ يعيش كثير من الإسبان من مناطق أخرى في كاتالونيا، ويحافظون على العلاقات الاجتماعية والمهنية والأسرية مع بقية البلاد، كما بدأت فعلاً العديد من الشركات التي تتخذ من كاتالونيا مقراً لها في الخروج من المنطقة. ستكون كلفة الاستقلال لا محالة كبيرة، إذا أخذنا بعين الاعتبار الخروج من الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، والعقوبات المدريدية الاقتصادية خاصة، والعزلة الدبلوماسية وتضخم الدين العام المقدر بـ 130% من الدخل الخام (حيث سيضاف إليه جزء من الدين العام للدولة المركزية)، ما يزيد المشكل تعقيداً. لكن التعنّت القمعي للحكومة المركزية لن يؤدي إلا إلى تعميق المأزق. في مداخلة له في صحيفة «صوت الشمال»، أقر خافيير بيريز رويو، أستاذ القانون الدستوري في جامعة إشبيلية، بأن «راخوي طبّق ضغوطاً هائلة لشن المواجهة حتى بدأت ترتد عليه». من المسلّم به أن الحزب الشعبي لرئيس الحكومة ماريانو راخوي، وأعضاء الحزب الوسطي سيودادانوس (المواطنون) المعارضين بشدة للاستقلاليين، لا يملكون اﻷغلبية المطلقة في مجلس النواب. ففي حال تدهور اﻷمور، سيكون، نظرياً، بوسع الحزب الاشتراكي وحزب اليسار الراديكالي بوديموس، اللذين يحظيان بدعم بعض اﻷحزاب الإقليمية حتى في كاتالونيا، الحصول على الأغلبية لإسقاط راخوي ومحاولة التفاوض مع الانفصاليين، وسيكون هذا هو المخرج الوحيد من اﻷزمة.