باريس | وانتهت الجولة الخامسة بخسارة العرب (وأي خسارة)! لتصبح الفرنسية أودري أزولاي في منصب مدير منظمة التربية والعلوم والثقافة «اليونسكو»؛ خلفاً للبلغارية إيرينا بوكوفا التي شغلت المنصب لدورتين متتاليتين منذ عام 2009. جاء ذلك بعدما حصد المرشحون العرب معظم الأصوات في الجولات الأولى، لتتحوّل في النهاية انتخابات المنظمة إلى جولة تناطح مخجل بين مرشح قطر حمد الكواري ومرشحة مصر مشيرة خطاب.
المنظمة التي تأسست عام 1945 حينما أفاقت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية على مئات آلاف الأطفال بدون تعليم وعلى عشرات المعالم التاريخية والمتاحف المهدمة، وبتحريك رئيسي من بعض الدول الأوروبية أبرزها بريطانيا وفرنسا، تعود رئاستها اليوم إلى فرنسا للمرة الثانية بعدما كان الفرنسي رينيه ماهيو قد أدارها لدورتين متتاليتين ما بين عامي 1962 و1974.
ليس سراً أن المنظمة الأهم على صعيد الثقافة والتربية اليوم، تم إنشاؤها من قبل الدول الكولونيالية الغربية لخدمة مصالحها. في العقد الأول على تأسيسها، لم تدعم المنظمة حركات التحرر الوطني المناهضة للاستعمار، ولم تقف ضد الفظاعات التي كانت ترتكبها القوى المهيمنة على العالم، والدول التي انضمت إليها تباعاً ظلت في موضع تجاهل وتهميش من قبل الدول المسيطرة، حتى عام 1974 الذي سيشكل منعطفاً كبيراً تمثل بوصول السنغالي أحمد مختار أمبو إلى إدارة المنظمة. كان الأخير مدافعاً شرساً عن دول «العالم الثالث»، ووقف أمام الهيمنة الثقافية، واحتكار تداول المعلومات، ليضع حداً لتجاهل الدول الفقيرة والمستضعفة؛ وليبدأ حقبة جديدة في تاريخ منظمة بدأت معه بالاقتراب إلى الشعارات النبيلة التي وضعت لها.
دعم أمبو حركات التحرر الوطني، وكان في مواجهة المركزية الأورو ـ أميركية. في عهده، أصدر أول القرارات الشجاعة التي تدين الاحتلال الإسرائيلي وتدعو لمنع الحفريات في القدس وتغيير معالمها، ودفع بالمنظمة إلى مقاطعة الدولة العبرية ومنع تقديم العون العلمي والثقافي وحرمانها من المشاركة في أنشطة المنظمة، واستطاع السنغالي المناهض للاستعمار أن يشكل جبهة قوية انحازت إلى حقوق الشعوب وتراثهم وثقافتهم. وبالطبع كل هذا لم يعجب القوى المهيمنة التي اتهمت أمبو وقتها بالماركسية ـ التي كانت تهمة آنذاك ـ ومعاداة الليبرالية الغربية وتبني سياسة معادية، لتقوم حكومة ريغن في الولايات المتحدة بتعليق دعمها المالي للمنظمة (تماماً نفس سيناريو عام 2011 عند قبول فلسطين كعضو في المنظمة) لتنسحب كلياً وتلحقها بريطانيا في بداية الثمانينيات؛ حين نجح أمبو بخلق توازن أتاح له الفوز في دورة ثانية.
كان المقصود من الانسحاب الأميركي وقتها أن يكون تحذيراً لمنظومة الأمم المتحدة بأكملها أن إدارة ريغن تهدف إلى وقف التوجه المناهض للغرب بشكل عام والولايات المتحدة على وجه الخصوص.
نعود إلى عام 1984 وننظر إلى الراهن اليوم، ويا للغرابة! نجد حجج إدارة ريغن للانسحاب من المنظمة هي ذاتها مبررات انسحابها قبل يومين: «انحياز المنظمة ضد إسرائيل وسوء الإدارة المالية». الحجة نفسها اليوم، لكن مع فارق كبير بين أمبو الذي لم يأبه يومها بالانسحاب الأميركي وأصرّ على رفض «فرض الرأي والهيمنة وإقصاء الشعوب والثقافات» وبين بوكوفا التي كانت قد صوتت مع بان كي مون ضد قرار تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الفائت الذي أكد أن المسجد الأقصى تراثٌ إسلاميٌّ خالص لا علاقة لليهود به، وقد رأيناها قبل يومين تقف كذليلة أمام الكاميرات تتأسف على انسحاب الولايات المتحدة وتستعطفها.
استطاع أمبو أن يوجه اليونسكو إلى المسار الصحيح للمنظمة التي بدأت الانتصار لحقوق الشعوب المستضعفة في العالم، ونجح في تحقيق نوع من التوازن، وإن ظل غير متكافئ حتى الآن، وتمكن بالعمل مع الايرلندي الحاصل على جائزة نوبل للسلام شون ماكبرايد من تمرير تقرير يعتبر الأهم في تاريخ المنظمة. تقرير ركز على مجموعة من المبادئ الأساسية منها الاستقلال الثقافي، والاعتراف بالفجوة بين إعلام الدول المتقدمة والدول التي تفتقر للإمكانيات، وضرورة مساعدة الدول الفقيرة ووقف تبعيتها للدول المتقدمة، والمساواة في تبادل المعلومات وتدفقها، واحترام استقلالية الشعوب من دون المسّ بكرامتها وهويتها.

في العقد الأول على تأسيسها، لم تدعم المنظمة حركات التحرر الوطني المناهضة للاستعمار


خلال التاريخ العاصف للمنظمة، جرى الكثير من التغييرات الإيجابية لصالح المستضعفين والمهمشين، وحصلت إنجازات في مضمار التربية والثقافة في «البلدان النامية»، خصوصاً في أفريقيا وأميركا اللاتينية نعم صحيح، إلا أن الطريق ما زال طويلاً للمنظمة التي ما زلت تخضع لسيطرة القوى المهيمنة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً. على سبيل المثال لا الحصر، 5% من الدول الأعضاء (10 من أصل 195) تمتلك ثلث المواقع المصنفة كتراث عالمي! هذه الـ «التوب تن» تشكل جميع القوى العالمية الكبرى اليوم وحتى في الأمس. ولتوسيع مجال الرؤية أكثر، فإنّ 10% فقط من الدول الأعضاء (21 من أصل 195) يمتلكون ما يقارب نصف مواقع «التراث العالمي»، وبالطبع الغالبية هي الدول الأوروبية أو تلك التي تتمتع بعلاقات اقتصادية وسياسية متميزة مع «التوب تن» التي أشرنا إليها. وهذا يعني أن تصنيفات اليونسكو منذ تاريخ نشأتها حتى اليوم ما زالت تابعة للتراتبية المجحفة والتفاوتات الاقتصادية والسياسية والثقافية بين مختلف الدول التي تعترف بها المنظمة، أو بالأحرى بين الدول الإمبريالية وتلك التي انتزعت استقلالها بعد الاستعمار وظلت خاضعة للتغيرات الأيديولوجية وعلاقات القوة، في هذا النظام العالمي الذي يفتقر بوضوح إلى العدل والمساواة.
أودري أزولاي (1972) ابنة أندريه أزولاي ذي الأصول المغربية اليهودية، والذي يعمل مستشاراً خاصاً للملك محمد السادس، ومن قبله للملك الحسن الثاني، كانت قد شغلت منصب وزارة الثقافة في عهد فرنسوا هولاند. وها هي تستعدّ للجلوس على كرسي إدارة اليونسكو في بداية تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، بعدما كانت هناك توقعات بحصول مرشح عربي على هذا المنصب للمرة الأولى بعد ما يقارب الـ ٧٠ عاماً على إنشاء المنظمة. لكن الراهن المخزي الذي تعيشه الأنظمة العربية الذي انعكس بشكل بشع على جولات الانتخابات حال بالتأكيد دون ذلك. المرشحان العربيان اللذان وصلا إلى الجولتين الأخيرتين، جاءا من دولتين بتاريخ قاتم في ما يتعلق بالحريات والعمل الثقافي وحقوق الإنسان. في مصر، علت أصوات العديد من المثقفين الشرفاء ضد مرشحة بلادهم؛ وخرج بيان من مجموعة مؤسسات أهلية يعترض على المرشحة ويدين ممارساتها وصمتها تجاه الخروقات التي ارتكبتها الحكومة المصرية أثناء شغلها مناصب عدة فيها. خطاب ذات الحادي والسبعين عاماً، إن لم تساعد بلدها فكيف كان لها أن تساعد العالم!؟ أما قطر، فقد لعبت على ورقة الأزمة المالية التي تعصف بالمنظمة وراهنت عليها، وهي التي ليس لديها غير المال تقدمه من خلال مرشحها الكواري ذي السبعين عاماً. ويا للصدف، المرشحان العربيان يقتربان من السن نفسها أيضاً، وهذا طبيعي في أنظمة لا يعرف مسؤولوها سن التقاعد. شهدنا أسبوعاً حافلاً بالمسرحيات الإعلامية الرخيصة التي انقسمت في مشهد مبتذل، وأسبوعاً حافلاً بالمعارك الدامية بين المرشحين اللذين استماتا في محاولات الفوز، إلى درجة دفعت كليهما إلى مخاطبة ودّ دولة الاحتلال، ليخسرا أخيراً في نهاية انتخابات ستبقى شاهدة على انحطاط الراهن العربي.
قد تكون المنظمة مقبلة على مرحلة جديدة في تاريخها المثير للجدل، وقد يعيد هذا التاريخ نفسه، وسنرى إن كانت أزولاي ستقدم أي تنازلات لمراضاة أميركا ثانية. والأهم من ذلك كله، سنرى ماذا ستقدم للمنظمة التي تواجه أزمة مالية هي من الأعنف في تاريخها، وإن كانت ستطغى «التوازنات السياسية» على ثقافة الشعوب وحقوقها. وسيخطر في بالنا الكثير من الأسئلة المتعلقة ببرامج المنظمة وسياساتها في الفترة المقبلة.. سنؤجل تلك الأسئلة التي لا نملك أجوبة أكيدة عليها. ولكن الأكيد أن دولة الاحتلال احتفت بفوز «المرأة اليهودية الأولى» على رأس المنظمة التي لطالما شكلت لها كابوساً، تلك المرأة التي زارت الإسرائيليين عندما كانت وزيرة للثقافة ضمن وفد مانويل فالس عام 2016، الوفد الذي قدم وقتها هدية ثمينة بأن يكون 2018 عاماً لاحتفال فرنسا بـ70 عاماً على تأسيس كيان الاحتلال!