في كانون الثاني من العام الماضي، تنفّست أوروبا الصعداء إثر فوز «حزب الخضر» على «حزب الحرية» اليميني المتطرف في الانتخابات الرئاسية النمسوية، في أول استحقاق أوروبي رئاسي عقب فوز «بريكست» في بريطانيا، وفوز دونالد ترامب في السباق الرئاسي الأميركي. ووسط تخوف من اجتياح متوقع لليمين للقارة العجوز في عام 2017، أبعد فوز إيمانويل ماكرون على مارين لوبان في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، في أيار الماضي، شبح وصول اليمين المتطرف إلى سدّة الرئاسة الأوروبية للمرة الأولى في تاريخ «الاتحاد الأوروبي».
حينها، وصفت الصحف هزيمة اليمين المتطرف الفرنسي بـ«اللحظة التاريخية»، معتبرة أن وصول الشاب الفرنسي (39 عاماً) يشكّل «انتصاراً للاعتدال ولقيم الاتحاد الأوروبي، وانتكاسة كبيرة لقوى اليمين المتطرف في أوروبا».
اليوم، يهدّد شاب أوروبي آخر بإعادة إحياء المخاوف الأوروبية، من البلد الذي كان أول من ساهم في قتلها، النمسا. وأحدث فوز «حزب الشعب» المحافظ بزعامة وزير الخارجية سيباستيان كورتس (31 عاماً)، بالانتخابات التشريعية التي شهدتها النمسا أول من أمس، ضجة كبيرة في العالم، وخاصةً في الأوساط الأوروبية، وسط تزايد الحديث عن تحالف جديد يسمح بدخول اليمين المتطرّف إلى السلطة.
ونال حزب «الشعب» المسيحي الديموقراطي 30،2٪ من الأصوات، يليه حزب «الحرية» اليميني المتطرف المناهض للهجرة بنسبة 26،8٪، ومن ثم «الاشتراكيين الديموقراطيين» 26،3٪.
ومن المرجح أن يتحالف «الشعب» مع حزب «الحرية»، الذي يعدّ أقدم الحركات القومية الأوروبية، ولا سيما أن كورتس قال إنه يستبعد تحالفاً جديداً مع «الاشتراكيين الديموقراطيين»، وذلك بعد ولاية شهدت خلافات حادة بين الحزبين الحاكمين معاً.
ويرفع السياسي الشاب، الذي سيكون أصغر رئيس حكومة في تاريخ النمسا، شعارات شبيهة بتلك التي يتبناها حزب «الحرية» الذي يقوده هاينتس شتراخه، المعروف بمواقفه العنصرية وكراهيته للأجانب. وكان كورتس قد قال أمام أنصاره إنه مستعد لتولي منصب رئيس الحكومة وتقديم «نوع جديد من السياسة في هذا البلد»، مؤكداً «سأحارب من أجل التغيير بكل ما أوتيت من قوة».
ولد سباستيان كورتس في 27 آب عام 1986 في العاصمة النمسوية فيينا، حيث تلقى تعليمه. وفي عام 2003، بدأت مسيرته السياسية عندما انضم إلى حزب «الشعب» اليميني وتدرج في المناصب القيادية فيه، حتى أصبح في أيار الماضي زعيمه.
وبين عامي 2010 و2011، تولى حقيبة وزارة الاندماج، وفي عام 2013، تمّ تعيين كورتس، الشاب البالغ من العمر27 عاماً الذي كان يدرس القانون في جامعة فيينا، وزيراً للخارجية، ليصبح أصغر وزير في الحكومة منذ تأسيس الجمهورية وأصغر وزير خارجية في «الاتحاد الأوروبي».
ولُقب كورتس بـ«وندروزوزي»، أي الشخص الذي يستطيع السير على الماء، وقد تمّت مقارنته بزعماء آخرين من جيل الشباب، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء الكندي جاستين ترودو.
ونجح كورتس في استقطاب عدد كبير من الشباب من خلال تبني خطاب شعبوي في ما يتعلق بالهجرة، الملف الذي غيّر شروط اللعبة السياسية وبات مفتاح الوصول إلى السلطة في أوروبا.
ووفق المراقبين، فإن الهجرات الجماعية التي تضرب أوروبا هي السبب الرئيسي الذي دفع الأوروبيين باتجاه اليمين في جميع أنحاء القارة، بما في ذلك النمسا، الأمر الذي دفع كورتس إلى الانتقال بحزبه إلى اليمين عام 2015.
ومن ضمن التعهدات الذي أطلقها كورتس ولاقت رواجاً لدى الناخبين المحافظين واليمينيين، إغلاق طرق الهجرة إلى أوروبا، ووضع قيود على المعونات المالية المقدمة للاجئين، ومنع المهاجرين من الحصول على أي معونات حتى مضيّ خمس سنوات على إقامتهم في النمسا.
وتبنى مواقف وصفت بـ«المعادية للإسلام»، أبرزها إطلاقه حملة من أجل إغلاق «روضات الأطفال الإسلامية» في حزيران الماضي، معتبراً أنها «مؤسسات تعزل الأطفال لغوياً وثقافياً، رغم أنهم يحصلون على أموال من دافعي الضرائب في الدولة التي لا يسعون إلى الاندماج في ثقافتها ولا في لغتها».
كذلك لعب وزير الخارجية دوراً مهماً في إقرار البرلمان النمسوي عام 2015 حظر التمويل الأجنبي للمساجد والأئمة، في تعديل مثير للجدل لقانون صادر في عام 1912 جعل الإسلام ديانة معترفاً بها رسمياً في البلاد.
وفي حين قال كورتس إن «ما نريده من التعديلات هو تقليل النفوذ السياسي والتحكم من الخارج، ونريد أن نمنح الإسلام الفرصة كي يتطور بحرية داخل المجتمع بما يتفق مع قيمنا الأوروبية المشتركة»، اعتبرت الجهات المعارضة أنه «ظالم» لأن التمويل الأجنبي لا يزال مسموحاً به للمجتمعات المسيحية واليهودية.
وفي هذا السياق، طالب كورتس مطلع الشهر الجاري بـ«إغلاق المساجد التي لا تلتزم بأحكام قانون الإسلام الجديد»، داعياً إلى «زيادة عدد العاملين في مكتب الأديان (التابع للمستشارية النمسوية) حتى يتمكن من مراقبة المساجد والمراكز الإسلامية، ومعرفة ما إذا كانت تطبق هذا القانون بشكل دقيق».
أما على المسرح الدولي، فإن وزير الخارجية من أشد الرافضين لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ودعا في تموز الماضي نظراءه الأوروبيين إلى «دعم موقفه ووقف المفاوضات بشكل كامل مع أنقرة، التي يتهمها بممارسة «القمع».
وجاء ذلك بعد أشهر من إعلان كورتس أن بلاده «لا ترحب» بزيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي كان في جولة أوروبية تندرج في إطار حملته لدعم استفتاء يعزز صلاحياته الرئاسية. وكان وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي، قد منع أيضاً من دخول البلاد للمشاركة في أحد التجمعات المؤيدة لأردوغان بمناسبة الذكرى السنوية الأولى للانقلاب الفاشل.
كذلك عارض زعيم حزب «الشعب» توسيع الاتحاد الجمركي مع أنقرة، الذي تأسس بين الاتحاد الأوروبي وتركيا عام 1995 ويسري على بضائع محددة، رافضاً أي مفاوضات حول إمكانية إشراك قطاع الخدمات والمشتريات الحكومية والقطاع الزراعي في الاتحاد، في موقف تشاركه فيه الحكومة الألمانية.
وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهها كورتس للسياسيات التي تبنتها برلين في ملف المهاجرين، رحّبت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، أمس، بفوز حزب «الشعب» بالانتخابات، معتبرة أن «الفضل في هذا الفوز يعود للمرشح الشاب الذي قاد حملة انتخابية معتدلة وتمكن بذلك من تحديث حزب الشعب المحافظ».
(الأخبار، أ ف ب)