لا يمكن اختصار أسباب مشروع الاستقلال الانفصالي، عبر استفتاء 25 أيلول الماضي (في كردستان العراق)، بأنه مجرد مؤامرة صهيونية. لا يمكن كذلك اختصار أسباب تعثر هذا المشروع بخيانة فريق كردي مثّله ورثةُ رئيس جمهورية العراق السابق (الراحل بعيد الاستفتاء بأيام) جلال طالباني زعيم حزب «الاتحاد الوطني الكردستاني».
المؤامرة الصهيونية وموقف بافل طالباني، نجل الرئيس السابق، هما عاملان محدودا التأثير في نطاق شبكة معقدة من العوامل الماثلة في مشهد النزاع الدائر في العراق وفي المنطقة، كما انتهى إليه، بالنسبة للأكراد عموماً ولأكراد كردستان العراق على وجه الخصوص. لقد سعت إسرائيل دائماً إلى التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية. وهي حاولت نسج علاقات مبكِّرة مع قادة الحركة الاحتجاجية الانفصالية الكردية. وفي امتداد ذلك نحجت في إقامة علاقات مع الزعيم الكردي المؤسس الأبرز، في أواسط القرن، الماضي الملا مصطفى البرزاني والد رئيس إقليم كردستان الحالي مسعود البرزاني. لكن تلك العلاقات التي لم تنقطع يوماً، لم تتحوَّل، بالمقابل، إلى عامل حاسم في إدارة الدفة الكردية، لا بالنسبة لأكراد العراق، ولا، حتماً، بالنسبة لأكراد تركيا الذين هم أكثرية الأكراد في بلد واحد وأصحاب أكبر ثورة مسلحة اندلعت منذ حوالى أربعة عقود وما زالت مشتعلة حتى يومنا هذا.
لا شك أن الصهاينة عملوا ويعملون على تفتيت المجتمعات العربية وخصوصاً في البلدان المحيطة بفلسطين. وهم، كما الذين سبقوهم من الغزاة والمستعمرين، لجأوا إلى إثارة الفتن عبر تغذية الخلافات والنزاعات والتباينات القومية والعرقية والطائفية والمذهبية. لكن العامل الرئيسي في إذكاء أوار ونار تلك النزاعات إنما كان سببه الأساسي اضطهاد الأقليات وقمعها ومنعها من ممارسة أبسط حقوقها على المستويات السياسية والثقافية والحضارية... سياسة القمع والمنع هذه تناوب على ممارستها «الرجعيون» و«التقدميون»، الملكيون والجمهوريون، المفرّطون بالقومية العربية من مشايخ وملوك وأمراء، وأصحاب الشعارات القومية ممن استولوا على السلطة وتعاملوا بأساليب أكثر فتكاً واضطهاداً وأرسوا معالم قومية شوفينية تطلب لنفسها ما ترفضه لسواها... ولذلك يجب التفتيش عن أسباب نزعة الاحتجاج لدى الأقليات (والكرد أكبرها وأكثرها تعرضاً للقمع والمنع)، في هذا الواقع وليس فقط في تآمر من سعى، من المستعمرين والصهاينة، لاستغلال هذا الواقع من أجل الإمعان في إضعاف شعوبنا: لإخضاعها وإلحاقها ونهب ثرواتها ومصادرة استقلال وحقوق وحريات شعوبها.
ولا بد من أن نستحضر، في هذا الصدد، المبدأ الشهير في القانون والعلاقات الدوليين: وهو مبدأ حق تقرير المصير. ليس هذا الحق مطلقاً بالطبع، لكن الأساس فيه هو ممارسته: في شروط طبيعية ودون الاعتداء على حقوق الآخرين. وقد كانت حركات التغيير أول من طالب به. وكانت الثورة «البولشفية» التي تصادف مئويتها الآن، أول من كرَّس هذا الحق ومن فضح الاتفاقيات والمعاهدات بين الدول الاستعمارية على حساب حقوق الشعوب ومصالحها. لكن، للأسف، فإن قيادة تلك الثورة تخلّت عن هذا المبدأ لاحقاً، ومارست بخلافه في الاتحاد السوفياتي نفسه وفي العلاقة داخل المنظومة الاشتراكية. فهذه المنظومة استمرت بقوة دبابات «الجيش الأحمر» (تجربتا المجر وتشيكوسلوفاكيا)، تماماً، تقريباً، كما نشأت بقوة انتصارات هذا الجيش في الحرب العالمية الثانية ضد النازية والفاشية.
لقد انخرطت الحركات الكردية، حيث أمكن لها ذلك، في الأحداث والمتغيرات. حاولت تحسين شروط الصراع لمصلحتها ولو جزئياً. كرد العراق كانوا السباقين في الاستفادة من الحرب الأميركية على نظام الرئيس صدام حسين في العراق حين كانوا تعرضوا بشكل متواصل لقمع بلغ حد استخدام أسلحة الإبادة الشاملة (في مدينة حلبجة مع 5000 قتيل). ومن جهتهم ناور كرد تركيا أملاً في تحسين شروط حياتهم والتوازنات داخل بلدهم، لكنهم عجزوا أمام الإصرار التركي على حجب الأساسي من حقوقهم السياسية رغم ما حققوه من تقدم محدود في هذا المجال. وفي سوريا التي عانى كردها من تهميش وتمييز متواصلين كان على الحركة الكردية فيها أن تنتظر اندلاع الأزمة السورية لتحقيق مطالب سياسية وأمنية تمثل أبرزها في بناء إدارة ذاتية برعاية وحماية الولايات المتحدة مقرونة بطرح قيام حكم فيدرالي وإعلانه من طرف واحد في عز الأزمة السورية وبالاستفادة من هذه الأزمة بالطبع. ولم يحصل أي تحوُّل يذكر لمصلحة كرد إيران وحقوقهم فاستمروا يتربصون التحولات ويغذّون أملاً بأن تحمل لهم جديداً على صعيد أوضاعهم وعلاقاتهم.
لا شك أن الكرد قد لاحظوا بأن بعض ما حققوه من مكاسب (في العقد ونصف العقد الأخير) قد فُرض فرضاً على الدول المعنية في مجرى صراعات المنطقة. الأميركيون حملوا راية الحقوق الكردية من أجل استخدام قوة وقضية الأكراد لإضعاف القوى المناوئة لهم ولتصوير أنفسهم حماة الحرية والديمقراطية. كذلك فعل الصهاينة، وإن بدرجة أقل، وبشكل غير مباشر، وخصوصاً في كردستان العراق. ولذلك فقد قرر مسعود البرازاني رئيس إقليم كردستان العراق، المضي في سياسة تطوير المكاسب وصولاً إلى رفع شعار الانفصال والاستقلال في ظل الأزمة وليس بعد انتهائها. وهو، أيضاً، حاول استخدام الاستفتاء والإصرار عليه، لأسباب تتعلق بصعوباته الخاصة وبتزايد النقمة على حكمه بسبب الاستئثار والفساد والفئوية وتمديد ولايته دون مسوغ مشروع. ذلك ما جعله يختار توقيتاً غير مناسب، وجعله يقحم الاستفتاء عاملاً في الصراع على السلطة، ما جعل الموقف الكردي من الاستفتاء غير موحَّد لهذه الأسباب والاعتبارات، وليس، أساساً، بسبب «الخيانة» التي ينسبها البرزاني ومؤيدوه إلى فريق من منافسيه.
فات البرزاني أيضاً، أن الدول المعنية بالوجود الكردي قد دخلت، مؤخراً، مرحلة تقارب تكاد تصبح نوعية، ما مكنها من صياغة مواقف سياسية واقتصادية، وحتى أمنية وعسكرية، واحدة، ضد مشروع الانفصال. وهكذا تبين، سريعاً، أن الاستفتاء خطوة غير محسوبة، وذات توقيت غير ملائم، ووظيفة فئوية لا تحظى بالحد الضروري من الإجماع الكردي...
طبعاً لا يمكن الموافقة، مرة جديدة، على التعامل مع حقوق الأكراد بوسائل الترهيب والمناورات العسكرية والحصار والقمع والقوة. هذه الأساليب هي امتداد للسياسات الفاشلة أو الفاشية السابقة. ومن شأنها، بالتأكيد، استمرار الأزمة ومفاقمتها. كذلك من الواجب أن تستفيد الحركة الكردية من أخطائها. ذلك أن مسألة كالانفصال ستلحق أضراراً حقيقية بشعوب ودول عديدة ولا يمكن تقريرها بشكل منفرد وبما يخدم مشاريع استعمارية أو صهيونية.
اليوم تعاني شعوب المنطقة من حروب وإجرام إرهابي لا مثيل لهما. هي تعاني، خصوصاً، من تطرف ديني، وظفته قوى معادية متربصة من أجل تعميم الفتن والخراب وتضييع الحقوق والقضايا العادلة لشعوبنا وفي مقدمتها قضية الصراع مع العدو الصهيوني الغاصب والمعتدي... الأحرى بالقوى التي سارعت إلى التوحد ضد الاستفتاء وسواها أن تتوحد ضد العدوان الخارجي والتآمر الأميركي والصهيوني، وأن تتخلى عن كل دور لها في الانقسام الطائفي والمذهبي خصوصاً (فضلاً عن سياسات القمع والاضطاد القومي والاعتداء على الحقوق والحريات). فهذا الأخير، أي الصراع المذهبي، هو الأخطر الآن، ومسؤوليته تقع، بالتأكيد، على القوى المحلية قبل القوى الخارجية المتآمرة!
* كاتب وسياسي لبناني