هل فعلاً رفضت الولايات المتحدة الأميركية استفتاء كردستان لأسباب تتعلق بمفاضلتها بين علاقتها بكل من بغداد وأنقرة من جهة، وأربيل من جهة أخرى، أو رأت أن الظروف غير مؤاتية للمضيّ قدماً في تنفيذ الاستفتاء لإدراكها أن إيران تملك أوراق قوة، من شأنها تفكيك المشروع في مهده؟
في إجابة عن هذا السؤال، لا بد من العودة إلى رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، الذي قال في مؤتمره الأسبوعي (الثلاثاء 17 تشرين الأول الماضي)، إن «استفتاء استقلال كردستان صار من الماضي، وندعو إلى الحوار تحت سقف الدستور»، إذ مثّل ذلك إعلاناً رسمياً عن وأد مشروع مسعود البرزاني لاستقلال كردستان عن العراق بعد استعادة كركوك وحقول نفطها.
أما الموقف الأميركي الرسمي، الذي نُقل عن الرئيس دونالد ترامب، فكان أنّ «الولايات المتحدة محايدة في الأزمة بين حكومتي بغداد وأربيل والصراع على كركوك». لكن عملياً، شهدت أروقة البيت الأبيض والكونغرس حراكاً غير عادي في الأشهر الماضية تحضيراً للاستفتاء، علماً بأن الموقف الرسمي المُعلَن لم يصدر إلا قبيل إجرائه ببضعة أيام! ويبدو أن واشنطن أجرت عملية حسابية استنتجت في خلاصتها أن إعلان دعمها للاستفتاء لن يكون في مصلحتها، وخاصة مع بروز مؤشرات على سقوط مشروع التقسيم برمّته.

واشنطن: قبلة برزاني التي خذلته

بعد اجتياح «داعش» محافظات صلاح الدين وديالى ونينوى والأنبار في حزيران 2014، لوحظ بصورة لافتة ازدياد تعاقد جهات عراقية ــ رسمية وغير رسمية ــ مع جماعات ضغط في واشنطن. تظهر بيانات وزارة العدل الأميركية تسجيل 12 عقداً جديداً بين 2014 و2017، مقارنة بسبعة عقود بين 2006 و2014 (غالبيتها وقّعتها حكومة إقليم كردستان وحزب مسعود البرزاني وإياد علاوي). استمر مسعود وأفراد عائلته بالعمل مع جماعات الضغط التي كانت قد وقعت معها حكومة الإقليم في العقد الفائت (عندما كان قوباد، نجل الرئيس السابق جلال طالباني ممثلاً عن الإقليم في واشنطن)، وهي: Slocum & Boddie PC وGreenberg Traurig LLP.
لكن، بعدما سيطر مسعود وعائلته على معظم المناصب في كردستان، تعاقدت كل من بيان سامي عبد الرحمن (ممثلة حكومة الإقليم في واشنطن) وكاروان زيباري (مسؤول الشؤون السياسية في ممثلية الإقليم في واشنطن) مع جماعة الضغط Dentons US LLP في 1 آذار 2015 (وثيقة رقم 1)، ووفق المدوّن في نص العقد، كان من المقرر أن تساعد جماعة الضغط المذكورة حكومة كردستان على «تقوية تحالفها مع الولايات المتحدة، والتواصل بالنيابة عن أربيل مع أعضاء الكونغرس والإدارة الأميركية».
ويظهر في الكشف النصف السنوي الأخير لنشاط Dentons US LLP (وثيقة رقم 2) أنها رتّبت اجتماعات لوفود من حكومة الإقليم مع أعضاء في الكونغرس عام 2016 والنصف الأول من 2017، بالإضافة إلى كشف بتبرّعات جماعة الضغط لحملات انتخابية لمرشحين لانتخابات الكونغرس النصفية ومناصب المدعي العام في بعض الولايات الأميركية (جماعة الضغط تتعاقد مع أربيل حصراً).
وفي الأشهر الأربعة الأولى من 2017، تولّت جماعة الضغط Greenberg Traurig LLP عملية التواصل مع أعضاء في مجلس الشيوخ من الحزبين (وثيقة رقم 3)، وكبير موظفي مجلس الأمن القومي، الجنرال كيث كيلوغ (مساعد أتش. آر ماكماستر)، إذ مهّد التواصل مع كيلوغ إلى اجتماع وفد كردستان، الذي أرسله البرزاني إلى واشنطن برئاسة نجله مسرور (مستشار مجلس أمن إقليم كردستان)، مع مستشار الأمن القومي الأميركي ماك ماستر في 16 أيار الماضي.
في اليوم نفسه، استضاف «معهد التراث الأميركي» مسرور البرزاني، الذي تحدث من على منبر المعهد عن المعركة مع «داعش» والإصرار على إجراء الاستفتاء، مطلقاً تهديداً مبكّراً ضد «الحشد الشعبي» عندما طلب منه أن «يحترم حدود إقليم كردستان». بعدها بأيام، صرّح السفير العراقي السابق لدى واشنطن، لقمان الفيلي، بأن الأميركيين أبلغوا مسرور أنهم يرفضون إجراء الاستفتاء والانفصال، الأمر الذي استدعى رداً من مكتب الأخير ورد فيه أن «الفيلي ليس متحدثاً باسم الإدارة الأميركية ليصرّح بالنيابة عنها، وأن القرار الأميركي لم يصدر بعد».
استمر مسعود في محاولاته للتأثير في موقف واشنطن، وفي 12 تموز الماضي، تعاقد حكمت بامرني، وهو ممثل حزبه («الديموقراطي الكردستاني» ــ الفرع السابع في الولايات المتحدة وكندا) مع جماعة ضغط فعالة هي diGenova & Toensing (وثيقة رقم 4)، التي يديرها زوجان كانا يشغلان مناصب في إدارة رونالد ريغن ويتمتعان بعلاقات قوية داخل الحزب الجمهوري. واللافت أن مسألة المساعدة لإنجاح الاستفتاء ذُكرت بوضوح في العقد هذه المرة.
يذكر أن من إنجازات هذه الجماعة في السنوات الخمس الماضية نجاحها في الضغط عام 2012 لإزالة «جماعة خلق» الإرهابية من قوائم الإرهاب الأميركية، الأمر الذي يفسّر سرّ اختيار حزب البرزاني لها لتقود جهود الضغط في أروقة صنع القرار الأميركي لمصلحة استفتائه.
وعلى ما يبدو، نجحت الجماعة في بلورة مشروع قرار في مجلس النواب الأميركي كما أراد البرزاني، ففي يوم إجرائه الاستفتاء (25 أيلول الماضي)، تقدّم النائب الجمهوري ترنت فرانكس بمشروع قرار يقضي «بإعراب مجلس النواب الأميركي عن أنّ من حق شعب إقليم كردستان أن يحقق رغبته في دولة مستقلة».
وفي الأول من تشرين الأول الجاري، نشرت مسؤولة جماعة الضغط هذه، فيكتوريا توينسنغ، مقالة في موقع The Hill (المقرب من الكونغرس)، بعنوان: «لقد حان وقت استقلال كردستان»، وملأته بالمصطلحات الطائفية. في اليوم التالي، وزّعت diGenova & Toensing تقريراً من 28 صفحة على أعضاء الكونغرس، وسُلّمت نسخة منه إلى وزارة العدل.
التقرير عُنون بـ«المخالفات الدستورية للعراق» (وثيقة رقم 5)، واتخذ من الهجوم على ممارسات حكومة بغداد ذريعة لتبرير الاستفتاء والمضي قدماً بإجراءات الانفصال. كما ادّعى التقرير مخالفة الحكومة المركزية في بغداد الدستور في سبعة مواضع تتعلق بعدم احترام الشراكة ومفهوم الفيدرالية، إلى حرمان الإقليم الثروة (دون أي ذكر أين تذهب عائدات نفط الإقليم)، وليس انتهاء بتحميل بغداد مسؤولية ارتفاع نسبة الطلاق وانخفاض نسبة الزواج في كردستان!

يُرجّح بعد السيطرة على كركوك أن تخفت المطالبة بـ«الإقليم الغربي»

«الإقليم السنّي» الموؤود قبل ولادته

بعد أيام على اجتياح «داعش» محافظات عراقية في صيف 2014، تعاقدت جهات عراقية معارضة مع جماعات ضغط أميركية. ففي 5 تموز 2014، تسلمت وزارة العدل الأميركية نسخة عن توكيل خاص (وثيقة رقم 6) ممّا يُعرف بـ«مجلس العموم لشيوخ العشائر العراقية والعربية»، للمدعو مارك الصالح، وذلك لتمثيل المجلس في عمله واتصالاته مع الحكومة الأميركية، وقد وقّع التوكيل رئيس المجلس آنذاك، علي حاتم السليمان، الذي يُعرَّف على أنه شيخ عشائر الدليم في الأنبار، وله مواقف معروفة معادية لإيران والائتلاف الحاكم في بغداد و«الحشد الشعبي».
وفي الأول من تشرين الأول الجاري، صرّح رعد السليمان ــ الرئيس الحالي لمجلس العشائر المذكور ــ لوسيلة إعلامية كردية بأن مجلسه «يطالب بإجراء استفتاء لتشكيل إقليم للمحافظات السنّة الست على غرار ما جرى في كردستان في 25 أيلول الماضي»، علماً بأن خبر المطالبة بالإقليم السني كانت صحيفة سعودية شهيرة قد انفردت بنشره قبل إجراء استفتاء البرزاني بأيام، مع الإشارة إلى أن علي ورعد السليمان ضيفان دائمان في الفضائيات والصحف السعودية، ويدعوان بطول العمر للملك سلمان، كما سبق أن أثنيا على «عاصفة الحزم» في اليمن.
وعموماً، المطالب بإقامة هذا الإقليم ليست جديدة، فقد افتتحها رئيس مجلس النواب عام 2011 أسامة النجيفي، وتبعه كثيرون بحجة «التهميش والإقصاء المنهجي». ولعل المجلس العشائري أكثر الأصوات وضوحاً لجهة السعي إلى الانفصال، وبرزت في الآونة الأخيرة جهات أخرى أعربت بوضوح عن أنها ستعمل على إنشاء إقليم مستقل بعد استقلال كردستان، منها على سبيل المثال رجل الأعمال خميس الخنجر العيساوي، الذي يترأس ما يسمى «المشروع العربي».
لكن بعد سيطرة الحكومة المركزية في بغداد على كركوك وما حولها، من المرجّح أن تخفت الأصوات المطالبة بإقليم سني غرب العراق، فالإقليم الكردي القائم في الشمال منذ عقود لم تصمد إجراءاته التمهيدية للانفصال سوى أيام قليلة، فيما سقط مشروعه التقسيمي بضربة خاطفة!