«العلم وحده لا يمكنه خلق الغايات أو جعل الإنسان يتبنّاها؛ إن العلم، بالحد الأقصى، يستطيع أن يعطينا السبل التي بواسطتها نستطيع أن نحقق بعضاً من هذه الغايات»ألبرت آينشتاين

منذ 20 عاماً، توفي مبكراً، بل مبكراً جداً، عالم الفيزياء الفلكية الأميركي كارل ساغان. الكثيرون يعرفون عنه، والكثيرون أيضاً لم يسمعوا به. يتذكّر البعض الفيلم الذي انبثق من قصته «الاتصال» (Contact)، وبطلته جودي فوستر، الذي يحكي عن اتصال من الفضاء بالأرض بواسطة شيفرات تصل تباعاً.

تبيّن لاحقاً أنها مخطط رياضي لبناء «سفينة فضائية» تصل الإنسان بالكائنات الذكية غير الأرضية. القصة لا تنتهي كما تعودنا في أفلام الخيال العلمي الأميركية بالقتال والعنف وانتصار الجيش الأميركي أو أبطال فرديين على أشرار الكون، وإنما تنتهي بسبرٍ لأغوار ماهية الوجود الإنساني. هكذا كان ساغان في عمله العلمي، الذي جزءاً منه كان الانبهارُ بالكون وإمكانية وجود كائنات أو حياة غيرنا في مكان ما؛ لا ليعطينا إمكانية الاستعمار بالطبع أو حتى المعرفة العلمية فقط، وإنما معرفة وفهمنا الحقيقي لطبيعة وهدف وجود الإنسان، الذي قال عنه بلمعة ديالكتيكية بالغة «إننا مصنوعون من مادة النجوم. نحن الطريقة التي يعرف الكون نفسه بها»!
لم يكن كارل ساغان عالماً فقط، وإنما أيضاً كاتباً علمياً جماهيرياً، أي كان يكتب لشرح الكون الذي يحيط بعالمنا الأرضي للجميع؛ واشتهر ببرنامجه التلفزيوني Cosmos الذي أذهل الكثيرين بعمقه وأصبح صوته الرخامي كالموجات التي تنقل جمال الكون وأسراره إلى العالم*. على أثر كتاباته وبرامجه، اختار الكثير من الشباب والطلاب دراسة الفيزياء وعلوم الفضاء. فكانت بالنسبة إليهم بمثابة الحدث الذي يجد فيه بعض الناس اللحظة التي غيّرت حياتهم، ذلك لأنهم صدموا بأمر أكبر منهم وبشيء أكبر من واقعهم المَعِيش وتفكيرهم العادي.
في آخر كتاب له، أراد ساغان أن يبيّن كيف أن العلم هو طريقة للتحرر الإنساني، وخصوصاً التحرر من الأساطير والمعتقدات القديمة والخرافات والتنجيم، التي لا تزال تسيطر على العقل الإنساني حتى في أكثر الدول المتقدمة علمياً، مثل الولايات المتحدة الأميركية. يحكي ساغان في مقدمة الكتاب كيف صُدم عند نقاشه مع السائق الذي أقلّه من المطار، والذي وصفه بأنه يتمتع بالذكاء، فلما عرف من الذي يقلّه في سيارته، بدأ بالكلام حول مدينة «أتلانتيس» المختفية ونبوءات نوستراداموس وأمور أخرى جعلت من ساغان لاحقاً يتساءل عن مغزى ذلك اللقاء وعن التباعد بين التقدم التقني في العلوم والتكنولوجيا، وبين بقاء عقل الإنسان خاضعاً للمفاهيم التي لا تخضع للعلم أو تنتمي الى عالم الغيب والأساطير والمؤامرات. هكذا أتى كتاب ساغان «العالم المسكون من الشيطان: العلم كشمعة في الظلام» في عام 1995 ليعلن مخاطر أشباه ــ العلوم وأهمية الفكر العلمي والنقدي من أجل مجتمع منفتح ومتقدم.
للأسف، فاليوم بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على صدور الكتاب، أميركا هي في حال أسوأ بكثير من الحالة التي تركها فيها ساغان. فالجهل والعنصرية والكراهية والأفكار شبه ــ العلمية والعنف والأساطير والخوف تسيطر على العقل الأميركي، وينبت التطرّف والخطاب البشع من جميع الأطراف، حيث كان من المفترض أن تسيطر العقلانية والخطاب العلمي. يقول ساغان في كتابه، وكأنه على الرغم من تفاؤله الدائم كان يرى قوى العالم السفلي كما سمّاها ماركس التي كانت تهدد أميركا: «إنني قلق... من أن العلم ــ الكاذب والخرافات ستبدو سنة بعد سنة أكثر جاذبية، وإن اللاعقل سيغوي بأغانيه أكثر وأكثر. أين سمعنا هذا من قبل؟ عندما تستفيق الكراهيات القومية والإثنية في أيام الندرة... أو عندما يغلي التطرف من حولنا، عندها تبدأ الأفكار المعتاد عليها منذ الأزمنة السحيقة بالإمساك بأزرار التحكم وتترنح شعلة الشموع وتهتز بحيرة ضوئها وتتجمع قوى الظلام وتبدأ الشياطين بالاهتياج».
من يرى أميركا اليوم بقصص حقدها التي توّجت بمجيء أكثر رئيس معادٍ للعلم في تاريخها، وهو ليس فقط معادياً للعلم عملياً وفي سياساته، بل حتى في منطقه وطريقة كلامه، يستطيع أن يرى مدى مقدرة ساغان على استشراف ما كان سيحدث لو استمر هذا المنحى الذي كان يشهد بوادره في التسعينيات في جميع نواحي الحياة في أميركا. للمفارقة، كانت أميركا آنذاك تحتفل بانتصارها في الحرب الباردة وانتصار الليبرالية والأسواق الحرة المبنية على العقلانية الاقتصادية وانتهاء التاريخ، وكان فوكوياما يقول إن «الإنسان الأخير» أو الإنسان العقلاني سيكون محصناً، من قبل التقدم العلمي والتكنولوجي ومن قبل الرفاه الاقتصادي والمادي الذي تؤمّنه الرأسمالية الليبرالية، ضد الغوص مجدداً في أوحال التاريخ والتطرف والقومية والإمبريالية والصراعات. ومن هنا، كان كارل ساغان، العالم الفيزيائي الذي بعقله النقدي والعلمي ومن دون التعمق بالفكر والتاريخ الإنساني كما فعل فوكوياما، قد أصاب أكثر منه في رؤية المستقبل؛ ذلك لأن ساغان لم يكن يبحث عما أراد إيجاده مسبقاً كما فعل فوكوياما، بل ترك عقله يوصله الى الحقيقة.
طبعاً، لم يكن كارل ساغان جاهلاً بالذي يحدث في الواقع المادي والاقتصادي حوله، بل أعطاه المكانة في تحليله فربط بين التطورات الاقتصادية وبين انحلال العلم من العقل الأميركي، وكان هذا أيضاً من استشرافاته اللامعة عندما قال «لديّ حدس بأننا في أميركا، في زمن أولادي أو أحفادي، عندما يصبح الاقتصاد اقتصاداً خدماتياً ومعلوماتياً، وعندما تكون قد تسربت كل الصناعة الى الخارج وأصبحت التكنولوجيا حكراً بأيدي القلة ولا أحد من السياسيين يفهم القضايا الملحّة ولا يسأل الناس من هم في السلطة؛ وعندما نمسك بتوتر كرات الكريستال ونستشير الأبراج الفلكية من غير أن نستطيع أن نفرّق بين ما يجعلنا نحسّ بالرضى عن أنفسنا وبين الحقيقة؛ عندها سننحدر من دون أن نشعر الى الماضي الخرافي وإلى الظلام»!
اليوم، يحصل هذا في أميركا ويحصل طبعاً في المنطقة العربية وفي لبنان أيضاً. لقد عدت الى التفكير في كارل ساغان هذه الأيام بعد محاضرة حول الماركسية والاشتراكية، حيث تحول النقاش بعد ساعتين الى أن يطرح البعض نظريات حول سيطرة الماسونية على العالم وسيطرة آل روتشايلد على عالم المال وإلى ما هنالك من خرافات استعملها النازيون لتبرير جرائمهم. وأبعد من ذلك، ففي المنطقة العربية ككل، وفي خضم الصراعات التي نشبت بعد الربيع العربي، استفاقت من التاريخ القديم والحديث أساطيره وأصبحت تتحكم بالشعوب العربية وبمستقبلها صنوف التنجيم ونظريات المؤامرة (سايكس ــ بيكو، الشرق الأوسط الجديد،...) والخرافات، وجعلتها تدخل ما يمكن تسميته هذا الظلام العربي الكبير.
إن ارتباط الواقع هذا بعودة الظلامية يحتّم على رهان العصر بالنسبة إلى الإنسانية ألّا يبقى اليوم فقط ضمن حدود نشر التفكير العقلاني العلمي، وإنما أيضاً في تحديد الغايات للتحرر الإنساني كما قال ألبرت آينشتاين في مخطوطته «لماذا الاشتراكية؟». إن هذه الغايات علينا أن نحددها في حركة تحررية عالمية، ولا بد من ذلك لأن مسيرة «إغلاق العقل» تتجلى أكثر وأكثر اليوم حول العالم، وإن بأشكال مختلفة، في الفاشية والعسكريتاريا والاستبداد الديني والقومية البدائية. كما أن إمكانية استعمال الرأسمالية للتقدم التكنولوجي في الذكاء الاصطناعي لخلق مجتمعات فاشية خالصة قد بدأت تخرج من دائرة الاحتمالات البعيدة ومن الخيال العلمي الى الواقع الراهن. لكل هذا، نحن الآن فعلاً أمام رهان «الاشتراكية أو البربرية».
وهذا التحرر يجب أن يكون أيضاً تحرراً للفرد وللعقل. وهنا، وبفضل كارل ساغان، لدينا الفرصة بأن ينضمّ مئات الملايين الى درب المعرفة العلمية في جميع نواحي الحياة والوجود. وبفضله أيضاً، عندما ننظر إلى النجوم، نكتشف عجائب الطبيعة من دون أن نفكر بأبعاد خارج الإنسان، لأن هذا الكون هو الأصل المادي للعقل الإنساني الذي طريق تحرره النهائي من التاريخ هو سبرٌ لأغوار هذا الأصل؛ وعندها فقط نحقق ما قاله ساغان من أننا فعلاً نحمل مسؤولية فهم الكون لنفسه؛ وهل من أمر أكثر تحرراً من هذا العبء؟
*استوحت مجلة الـ Scientific American من عنوان برنامج ساغان مقدمة عددها الخاص حول الكون الصادر أخيراً.