القدس المحتلة | لا يمكن اعتبار سلوان (القرية الأكثر التصاقاً بالقدس القديمة) أكثر من عينة تسهم في تظهير صراع الوجود الكامل على أرض فلسطين. صراع يهدف إلى تغيير معالم المكان وتحويل الزمان عبر أساطير تاريخية وروايات توراتية تخدم مشروعاً استعمارياً حقيقياً على الأرض. الجمع بين الواقع والعملانية من جهة، والتشبث بالماورائيات من جهة أخرى، منهج أتقنه الاستعمار الاستيطاني الذي اجتاح منطقتنا وعمل وما زال يعمل على تقسيم الواقع الى محميات مغلقة جغرافياً واجتماعياً. هذا ما شرحه داوود الغول الباحث المتخصص في الدراسات المقدسية، خلال محاضرة بعنوان «آفاق وتحديات» أقيمت أخيراً ضمن فعاليات معرض «تحيا القدس» في المتحف الفلسطيني في بيرزيت. حالة قرية سلوان ليست بجديدة العهد، إذ يرجع تاريخها إلى بداية هجرة اليهود و«حلّ» مشكلة يهود أوروبا، أي منذ فترة الرحلات الاستكشافية التي قامت بها جمعيات يهودية لمعاينة أرض فلسطين قبل الهجرة إليها. وأرض سلوان التي تقع في المنطقة الجنوبية من البلدة القديمة، أخذت جزءاً من هذه الحصة في خضم البحث عن أرض «مدينة داوود» التي لم تثبت الآثار أساساً وجود أي دليل عليها في هذه المنطقة. ومن هنا، ارتبط موقع سلوان الجغرافي بالفكرة الصهيونية.وأوضح داوود الغول أنّه تم احتلال جزء من سلوان خلال نكبة الـ 48 مثلها مثل سائر أرض فلسطين. وعند احتلال القدس، تمّ ضمّها مع استكمال كل عمليات الحفريات التي بدأ العمل بها سابقاً، ذاك أنّ الفرضية التوراتية تقول بأنّ المنطقة الشمالية لسلوان كان تضم معبداً. لكن الأعمال الأثرية لم تثبت ذلك.
من واقع «العينة» ـــ أي سلوان ـــ نحاول هنا أن نفهم كيف استطاعت الصهيونية أن تستخدم التوراة كرافعة لخلق إبداعات جديدة! بكلمات أخرى، لم يقتصر استخدام التوراة على كونه كتاباً مقدساً بقدر ما استُخدم كنص أدبي لتطوير الواقع عملانياً. ففي كل مرة، كان يتم تأويله ليتناسب مع مراد المنظّرين والحاخامات بناء على ظروف اليهود في زمان ومكان معينين وصولاً الى الفكرة الصهيونية.
نتيجة لتأويلاتها واستخدامها علم الآثار الذي لم يُثبت منه شيء حتى الساعة، تحاول الدولة الصهيونية اليوم، أن تضفي نوعاً من الشرعية على استيلائها على حي سلوان تحت مسمى مدينة داوود، لإنشاء متنزه أثري توراتي فيها يخدم الرواية الأثرية والمشروع الاستيطاني الاستعماري. وللمفارقة هنا، يضيف الغول أن الموقع مبني في فترة زمنية أطول من الفترة المذكورة في التوراة، مما يدحض الرواية التوراتية.

توسّع المستوطنات أدى إلى محميات عربية منفصلة عن بعضها أو متصلة
جزئياً في ما بينها

منذ بداية التنفيذ الفعلي للمشروع الصهيوني حتى اليوم، نلحظ تعدداً وتنوعاً في سلوكيات وأدوات المستعمِر لتتناسب في كل مرة مع ظروف المرحلة. نجد ذلك في مقترحاتها لتحقيق أهدافها في ما يتعلق بمدينة القدس. يشير الغول في هذا السياق، إلى أنّ المخططات الصهيونية الموضوعة للقدس بشكل عام، فشلت في تحقيق أهدافها في ما يتعلق بتهجير السكان والاستيطان. لذا، هناك اليوم محاولة للتنازل عن فكرة تحقيق الهدف بناء على الأفكار القديمة. فالمخططات الجديدة تتحدث عن السياحة والثقافة والآثار كأدوات لتفريغ المدينة وتغيير بنيتها. جزء من هذه المخططات يقضي بأن تكون القدس عاصمة السياحة في الشرق الأوسط، فتتحوّل إلى متحف ومكان لإقامة الأغنياء والفنانين، لا مكان للسكن العام. بمعنى آخر، بهدف تحقيق فكرة المتحف المفتوح، يجب التخلص من السكان وأهل المدينة.
وبناء على صور مخططات عُرضت خلال الندوة، أشار الغول إلى أنّ المتحف يعتمد بشكل أساسي على البلدة القديمة ومحيطها. ويتم تحديد محيط البلد القديمة بتقسيمه الى دوائر عدة تضم كلاً من سلوان، واد الجوز، الشيخ جراح، شارع السلطان سليمان (الشارع الذي يربط باب الساهرة بباب العامود) وباب الخليل. جزء من هذه المخططات بدأ العمل على تنفيذها كالفنادق التي تم بناؤها في منطقة الشيخ جراح، وسياسات تفريغ السكان من خلال الاستيلاء على منازلهم، بالإضافة الى ماميلا (مأمن الله) وهو مركز تجاري وفندق عند باب الخليل والحديقة القريبة منه. مواقع كثيرة تم استهدافها والسيطرة عليها باتباع استراتيجيات مختلفة كتحويل عدد من المناطق الى أماكن عامة كالحدائق.
ويبدو جلياً حضور الدين ومركزيته في المشروع الاستيطاني في القدس، سواء من خلال «الميثولوجيا» التوراتية المُسقطة على تاريخ القدس ومحيطها، أو من خلال الأسماء التي تطلق على المناطق التي يراد الاستيلاء عليها. ولعله من المفيد هنا العودة إلى يوم دراسي حول «الدين والسياسة في إسرائيل» نظّمته «جامعة بيرزيت» أخيراً بمبادرة «مدى الكرمل ـ المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية»، وبرنامج الماجسيتر في «الدراسات الاسرائيليةـ جامعة بيرزيت». خلال هذا اللقاء، قدّم الناشط الحقوقي والمحامي علاء محاجنة المتخصّص في قضايا الأرض والمسكن، مداخلة حول دور الدين ومركزيته في المشروع الاستيطاني في القدس. وأشار إلى أنّ فكر اليمين الديني الاستيطاني الاستعماري يتجلّى في القدس ومحيطها كسلوان والشيخ جراح، متطرقاً الى محاولات إسقاط الرواية الصهيونية على مدينة سلوان («كفار هشيلوح» بالتسمية العبرية) من جهة، وحقيقة المكان من جهة أخرى. وشرح انعكاسات تضخّم الاستيطان اليهودي داخل الأحياء الفلسطينية في القدس ومحيطها.
وكملاحظة سريعة على تطور تاريخ الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي على كل أرض فلسطين الانتدابية، نرى انتقالاً تدريجاً من شكل المستوطنات المتجمّعة حول بعضها سواء في الجليل أو وسط فلسطين، الى شكل استيطاني يتوزع على كل أرض فلسطين متغلغلاً بين المدن والبلدات الفلسطينية، مما ينتج بطبيعة الحال، محميات عربية منفصلة عن بعضها أو متصلة جزئياً في ما بينها. هذا ما يؤدي بالتالي إلى حواجز جغرافية، وحواجز نفسية واجتماعية تقسم روح المجتمع الواحد منتجة هُويات وأولويات ومطالب مُجزأة ومشتتة.