قد يُعدُّ الإعلان قبل أيام عن تأسيس حزب جديد (حزب الخير) في تركيا، دليلاً على انتعاش الحياة السياسية في البلاد. غير أنّ الواقع لا يدلّ على ذلك، إذ تشهد الديموقراطية التركية ضربات متتالية، وقع آخرها في الأيام القليلة الماضية، إثر إجبار رؤساء بلديات على الاستقالة، استكمالاً لحملة التطهير اللامتناهية التي بدأ بها الرئيس رجب طيب أردوغان، في صيف 2016 إبان محاولة الانقلاب الفاشلة، التي بدأت تطاول حزبه بصورة فاقعة.
في جديد سيناريو الملاحقات السياسية التي يقوم بها «حزب العدالة والتنمية» بزعامة أردوغان، بحق الأصدقاء والأعداء، فتحت النيابة العامة التركية، أمس، تحقيقاً بحق المتحدث باسم الحزب المعارض الرئيسي «الشعب الجمهوري»، بولنت تزكان، لوصفه الرئيس التركي بـ«الديكتاتور الفاشي» في خطاب ألقاه قبل يومين. جاء خطاب تزكان في سياق دعمه لمسؤول محلي في مدينة تيكيرداغ في شمال غرب البلاد، يلاحقه القضاء بتهمة «إهانة الرئيس»، وهي جريمة يُعاقَب عليها بالسجن ما بين سنة وأربع سنوات.
كان لكلمات تزكان تأثير مزعج بين الأوساط المؤيدة لأردوغان. بينما صنفها المتحدث باسم الأخير، إبراهيم كالين، على أنّها تندرج ضمن «خطاب كراهية... معيب للمعارضة»، اعتبرها رئيس الوزراء، بن علي يلديريم، «تصريحات وقحة». في المقابل، لا يرى تزكان أنّ كلماته تُصنَّف في خانة «الجرم»، بل يبرر بأنّها «ذات طابع سياسي».
بيد أنّه إذا كان تزكان يُعاقَب عبر القضاء، فإنّ الملاحقات السياسية تخرج في غالبها حالياً عن الأطر القانونية والشرعية، لتعتمد على التهديدات والاستفزازت، مستفيدة من واقع السيطرة الكبيرة لـ«العدالة والتنمية» على مختلف المؤسسات ومفاصل الحياة العامة، خاصة بعدما كبّل هذا الحزب أيدي معارضيه من خلال حال الطوارئ المفروضة منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز 2016.
تلك الملاحقات اقتحمت «بيت» الحزم الحاكم، وقد يظهر ذلك من خلال الاستقالات المتتالية لرؤساء بلديات، بعضهم ينتمي إلى «العدالة والتنمية»، وجاءت بضغط مباشر من الرئيس التركي. وتندرج حملة «التطهير الداخلي» في إطار التحضير للانتخابات الرئاسية في عام 2019 وللتخلّص من أشباح فتح الله غولن، في داخل «العدالة والتنمية» الذي دعم معظم أعضائه الجماعة قبل النزاع معها. وكان أردوغان قد أشار مراراً إلى أنّ بعض دوائر حزبه تعاني «الترهل»، وبالتالي هي بحاجة إلى تجديد قبل عام الانتخابات في 2019.
الاستقالات طاولت، أول من أمس، رئيس بلدية إقليم باليكشير في شمال غرب البلاد، أحمد أديب أوغور، الذي أعلن تخليه عن منصبه وترك «حزب العدالة والتنمية» بعد ضغوط وتهديدات قال إنّها «تفوق الاحتمال»، ليكون سادس رئيس بلدية يستقيل.
برغم إقدام أوغور على الاستقالة الإرادية، فإنّه عبّر في مؤتمر صحافي عن رفضه لحملة التطهير هذه، مضيفاً أنّ «الديموقراطية في تركيا معيبة»، قبل أن يجهش بالبكاء. وفي كلمات مؤثرة، أكد أنه لم تقع أي مخالفات من جانبه، لكن «رغم ذلك، تأتيك ضغوط وتهديدات باستمرار إلى منزلك وإلى عائلتك، وهذا يفوق الاحتمال»، مشدداً في الوقت نفسه على أنّ لا علاقة تجمعه بشبكة رجل الدين فتح الله غولن، المتهم بتدبير محاولة الانقلاب.

رئيس بلدية أنقرة المستقيل: أغادر منصبي بأمر من زعيمنا أردوغان


استتبع إبعاد أوغور عن منصبه، تعليقاً لرئيس «حزب الشعب الجمهوري» المعارض، كمال كيليتش دار أوغلو، قال فيه إنّ تركيا باتت محكومة بأسلوب «المافيا»، إذ إنّ تهديد «عائلة هو أسلوب عصابات، ومن يقومون بذلك لا يستحقون أن يكونوا في الحكومة».
في السياق نفسه، فإنّ رئيس بلدية العاصمة أنقرة، مليح غوكشك، استقال يوم السبت الماضي، قائلاً بوضوح: «أغادر منصبي كرئيس بلدية بأمر من زعيمنا رجب طيب اردوغان». وأضاف: «أنا أذعِن لطلب رجب طيب أردوغان ليس لأنني أعتقد أني لم أحرز نجاحاً، ولا لأنني أعتقد أني تعبت... بل فقط لأنني أؤمن بأن (أردوغان) يمكن أن يجعل بلادنا في الصدارة». إلا أنّ اختيار الرضوخ لـ«أمر الاستقالة»، جاء حقيقةً بفعل خشية من إقالته من الحزب كلياً ووضعه تحت التحقيق في قضايا فساد، من قبل وزارة الداخلية.
لعلّ المفارقة، أنّ هذا الرجل الذي لم يكن محبوباً على الإطلاق من قبل الأوساط العلمانية في البلاد، كسب تعاطف معارضيه بسبب الطريقة التي جرى التخلص منه بها، إذ رأى رئيس «حزب الشعب الجمهوري» أن من «يأتون عبر الانتخابات يجب أن يرحلوا في الطريقة نفسها». علماً أنّ رئيسة «غرفة المهندسين المعماريين» في أنقرة، تزجان كراكوس جاندان، رأت في تصريح صحافي أخير، أنّ غوكشك عرَّضَ وجود منطقة ذات رمزية عالية لإرث أتاتورك وقلب جمهوريته النابض، للفناء، مضيفةً أن المغزى من تلك التدميرات في أنقرة هو «تدمير الدولة العلمانية».
جدير بالذكر أيضاً، أنّ غوكشك المعروف بتصريحاته الجدلية في الشارع التركي والذي يرأس بلدية أنقرة منذ 23 عاماً، وانتُخب في الدورة الأخيرة على لائحة «العدالة والتنمية»، سبقه إلى الاستقالة، أيضاً «بأمر من أردوغان»، قدير توباس، وهو رئيس بلدية إسطنبول منذ 13 عاماً.
قد يدلُّ إجبار هؤلاء المسؤولين على الاستقالة، على التحكّم الهائل الذي يتمتع به أردوغان. لكن من جهة ثانية، قد يكون لتلك الخطوات أثر عكسي، إذ من شأنها إنهاك «العدالة والتنمية» وتعريضه لبعض الخسائر الانتخابية، خاصة أنّ الحزب الحاكم في تركيا يتصف بزبائنية تزداد في صفوفه وعلى مختلف المستويات. أيضاً، يشير الصحافي أوراز آيدن، في مقال أخير، إلى أنّه «بينما تشتد السلطوية في البلاد، فإنّ حزب العدالة والتنمية يهتزّ بفعل نقاشات داخلية تتناول مستقبل الحزب»، مشيراً إلى أنّ هذه النقاشات تطورت «بعدما طغى التصويت السلبي على الاستفتاء الدستوري (في نيسان) في مدن كبيرة، مثل أنقرة وإسطنبول».
(الأخبار)