اللاذقية ــ مشهد لافت في مكان محاذٍ لشاطئ البحر في مدينة اللاذقية، يجمع أطفالاً محررين من الخطف لدى المسلحين، مع أبناء شهداء ونازحين، تحت رعاية وإشراف إحدى الجمعيات الأهلية. هدف هذا الدمج بين الأطفال هو تعويض ما فاتهم من دروس وسنوات مدرسية هدرتها الحرب من أعمارهم. متطوعات ومتطوعون مختصون، إضافة إلى اختصاصي نفسي يشرف على التبدلات والتطورات التي قد تطرأ تدريجاً على أوضاعهم النفسية. ومع تحضيراتهم للسفر إلى بيلاروسيا، قبل أكثر من شهر، لحضور مخيم ترفيهي تعليمي، عمدت الجمعية ذاتها الى جمع أمهاتهم في ورشة عمل على مدار يومين متتاليين، لينتج منها ما يثير الدهشة فعلاً.
سيدات محررات ونازحات وزوجات شهداء يجلسن متجاورات، لمتابعة نماذج عن نساء مثلهن، من مختلف أنحاء العالم. شاشة إسقاط هي كل ما يلزم لاستحضار سيدات شهيرات تعرّضن للخطف أو العنف أو الاغتصاب على يد مجموعات إرهابية، وتمكّنَّ لاحقاً من جعل تجاربهن القاسية فرصاً لإيصال رسائل بلدانهن التي عانت لعنات الإرهاب والعنف. تدمع عينا إحداهن وهي تستمع إلى قصة الأيزيدية نادية مراد، التي روتها أمام مجلس الأمن. وتتفاعل بعضهن مع قصة الناشطة الباكستانية ملالا يوسف زاي، التي واجهت حركة «طالبان». بعضهن يظهرن عدم الاكتراث بالتقارير التي يشاهدنها، ويبدين شاردات الذهن... لعلّ ما مررن به كان أقسى من تلك التجارب. وبناءً على طلب المشرفة المحاضِرة، تنقسم النسوة إلى 3 مجموعات عمل، ليطلب إليهن المشاركة معاً في إعداد وتقديم جدوى اقتصادية لمشاريع صغيرة، تعدُ الجمعية بتمويل أنجحها. دقائق ويحتدم النقاش بين أفراد كل مجموعة، فيبدأ تبادل المعلومات عن أعمال صغيرة تجيدها معظمهن؛ كالخياطة وصنع الحلويات والمربيات وتحضير مؤن الشتاء. وفجأة تطغى الفطرة الإنسانية الأولى على الحياد والبرود. إحداهن استشهد زوجها في ذات المنطقة التي نزحت منها الأُخرى، غير أن وضع أطفالهما جمعهما. وفي لحظة واحدة، تغلبت قدرة النساء البسيطات على اكتساب آلية التفكير المنطقية التي تجعلهن يتعالين على الجراح، لتخفيف المأساة عن شريكة الوجع.

«لا أصدّق الغلاء الحاصل!»

في ملامحها تتجلى عذابات مأساة دامت 1883 يوماً. هكذا تحصي روضة ظريف ياسين، أيام الخطف التي دامت لثلاث سنوات ونصف سنة، مع أطفالها الثلاثة الذين يبلغ أصغرهم السابعة من عمره. «كنت أعد الوقت بالدقائق والثواني أيضاً»، تقول المرأة. وتتابع: «زوجي شهيد مدني قتلوه أمام عينيّ. وسرقوا مالنا وذهبنا. وهكذا رجعتُ (على الحديدة) بعد تحريري منذ حوالى 8 أشهر». وعن سبب حضورها الورشة تقول: «أشارك في هذه الورشة من أجل ابني. كان يحتاج إلى تعويض تعليمي، فهو لم يتعلم منذ 3 سنوات». وتتابع: «سنعود لنعيش معاً بإذن الله. إنما ستبقى شهادة زوجي غصة في قلبي، بعدما ظُلمنا مع أطفالنا كما لم يُظلم أحد». وعن مشاريع الورشة تقول: «كنت أعمل في تحضير المؤن وشغل الخرز، قبل 4 سنوات. إنما أشعر بالعجز اليوم عن مساعدة النساء هُنا في دراسة وتقديم جدوى اقتصادية. لا أعرف شيئاً عن الأسعار الحالية، ولم أعتد بعد على الغلاء المتزايد. بل لا أكاد أصدق الأسعار التي أسمعها».

تجمعهن الشفقة والامتنان

تتغلب قدرة النساء على
الجراح لتخفيف المأساة
عن شريكة الوجع

لا يختلف وضع السيدة سحر مقديد، عن وضع سابقتها، باعتبارها زوجة شهيد مدني قضى في معارك ريف حماة. مقديد أم لأربعة أطفال، أصغرهن يبلغ عامين، فيما تفتخر أن لديها ابنة تحتل المركز الثاني على سوريا في الرسم. من الإيجابيات التي دفعتها إلى المشاركة في الورشة؛ ملاحظتها انضباط أولادها مع المشرفات المتطوعات وحصولهم على فائدة مقبولة. المرأة تحدثت إيجاباً عن مفاجأتها بعرض المشاريع خلال الورشة، إذ إن لديها أفكاراً عدة للعمل. تقول: «سنعمل على مشروع لصنع المخللات. سأقدم بيتي مكاناً للعمل». وتعليقاً على رفيقاتها المشاركات في الورشة تقول: «أكثرنا خاسرات. وكلنا هدفنا واحد؛ هو الأطفال. تبادلنا هُنا الحديث عن طموحاتنا، إذ إننا لا نفكر في أنفسنا بل في إيصال أطفالنا إلى بر الأمان». وتضيف: «إن تم ما أفكر فيه حول المشروع، فلن أحتاج الى الوظيفة الحكومية بعد الآن». ويختلف الأمر قليلاً بالنسبة إلى ميرفت الشيخ، على الرغم من كونها زوجة شهيد ضابط، وأماً لطفلين. المرأة التي تعمل موظفة حكومية، وتتابع دراستها الجامعية في السنة الثالثة في قسم رياض الأطفال. تقول الشيخ: «لدي إيمان بحاجتنا إلى الدعم النفسي والمعنوي، وإن عليّ أن أكون قوية من أجل أولادي وبلدي، بدلاً من الندب والجلوس في منزلي». وتضيف: «أنال هُنا ثقة بالنفس. وكلما سمعت مشكلة امرأة أُخرى، أكتسب خبرة وخلاصة تجربة، فأستمد قوتي من قوتها وحلولها لمواجهة أزمتها». تعتبر السيدة المكافحة أن مأساتها أصغر مما واجهته السيدات المحررات. وتعبّر عن إعجابها بالسيدة الحلبية، إذ إنها تشارك في مشروع مجموعتها، متبرعة بتعليمها الخياطة. توضح مشاعرها بالقول: «لا علاقة لمواقفنا من بعض المهجّرين، بالامتنان الذي أصابني أمام هذه السيدة. لا حقد لديّ تجاه الآخر. لا ذنب لنا في مكان مولدنا. رضينا أو لم نرضَ سنعيش معاً. ويكفيني رغبتها في أن تعلمني شيئاً، سواء نجحتُ أو فشلتُ في العمل لاحقاً».

المرأة الحلبية «المعلّمة»

المرأة الحلبية النازحة التي يعجَب معظم السيدات بشخصيتها، هي سعدة قاسم؛ من حي صلاح الدين في حلب. تعمل «أم جمعة» خياطة محترفة، وتعلمت تصفيف الشعر أيضاً، لتفتتح صالونها في حي الدعتور الشعبي في مدينة اللاذقية، منذ نزوحها قبل 4 سنوات. تحضر ورشة الدعم من أجل طفلتيها أيضاً، بعد استشهاد ولديها العسكريين في الجيش، إضافة إلى زوجها. تقول عن النساء المشاركات: «أحس بهنّ جميعاً. كلنا نتألم من الخسارة. وأتمنى الصبر لنا جميعاً لاحتمال ما خسرناه. أكثرهن أزواجهن شهداء. وهنّ بلا معيل، لذا سأعمد إلى تعلميهن صنعة يستفدن منها». وعند سؤالها السؤال اللعين ذاته: «هل تشعرين أنهن يختلفن عنك؟». تجيب المرأة ببساطة وطيبة واضحين: «نعم بالتأكيد. إنهن لا يعرفن الصنعة، بينما أنا معلّمة. إنما أتذكر كيف بدأت في تعلم المهنة، وهم يردن أن يبدأن العمل الآن.

لذا أحب مساعدتهن». لم تسقط المرأة في فخ المناطقية والطائفية بإجابتها السريعة، ما يعيد إلى الأذهان طيبة سورية قديمة، توارت خلف الدم الذي طغى على كل شيء. غير أن لديها فوقية من يعرف على من لا يعرف، ما يبعث على التفاؤل قليلاً. تضيف بحزن: «يكفي أنهن يربّين أيتاماً. ويعانين الفقر والظلم». لن تعود المرأة إلى حلب، فلم يبقَ من أهلها أحد، وهي لا تنسى وقفة أهالي حي الدعتور معها، عقب استشهاد ابنها، ولعلّ هُنا من هنّ بحاجتها إن تم المشروع الذي يجري الحديث عنه في الورشة، حسب تعبيرها.

العمل أو المتاجرة في المأساة

ترى رئيسة «جمعية الصواري» الأهلية أفنان بلال، أن تفاعل الأطفال في ما بينهم أسهل وأسرع بكثير من تفاعل الأمهات، إذ إن مسافات تفصل بين النساء المجتمعات، بسب اختلاف بيئاتهم ومستواهم التعليمي والثقافي. وتعد الجمعية على لسان رئيستها بتمويل كل المشاريع ذات الجدوى الاقتصادية الناجحة، إضافة إلى الإشراف على تقديم الدعم النفسي والصحي والتعليمي لـ 60 طفلاً، مع ورش عمل تمكين اقتصادي واجتماعي لأمهاتهم اللواتي يصل عددهن إلى 40 امرأة. من جانبها، تجد المدربة راما حسن، القيّمة على الورشة، أن الاستجابة من قبل السيدات خلال الورشة كانت جيدة جداً، ولا سيما خلال النشاط الجماعي والنقاش حول المشاريع وتحفيزهن للعمل. وتقول: «شعرتُ بأنهن بدأن يجدن قيمة لهنّ وأملاً في تحسين واقعهن. إنما اضطررت إلى خفض مستوى المعلومات والمصطلحات إلى أبسط صيغة ممكنة وربطها بأحداث ووقائع يومية معيشة، بسبب تفاوت مستواهن التعليمي والثقافي». وتعتبر حسن أن أهم الصعوبات التي تواجه العمل مع هؤلاء السيدات حالة الاستسلام لدى بعضهن بالعجز والاتكال التام على الدولة ومؤسساتها أو على جمعيات ومنظمات المجتمع الأهلي، ما يؤدي إلى المتاجرة في المأساة، حسب تعبيرها. وتضيف: «يأتي دوري هُنا في أن أقنعها بقدرتها على النهوض والعمل، من غير أن أقزّم مأساتها وحجم معاناتها الهائلة، أو جرح مشاعرها».