بعد دمشق، جاء دور باريس. يوسف عبدلكي، الفنان السوري المبدع والمثقف الشجاع، حمل «عارياته» ومضى إلى عاصمة الأنوار، منفاه السياسي طوال ربع قرن (عاد إلى دمشق العام 2005)، ليعرضها في غاليري «كلود لومان» التي تحتضن أبرز التجارب العربية الحديثة في باريس. في العام الماضي، حين قدّم يوسف هذه المجموعة من الأعمال الفحميّة العارية والطبيعة الصامتة في «غاليري كامل» الدمشقيّة، قامت الدنيا ولم تقعد: لقد جمع المعرض، في جبهة واحدة أصوليي الربيع المزغول و«ثواره» الليبراليين على حدّ سواء. عاريات! يا للهول.
أين «الأخلاق»؟ أين «القيم»؟ «الفنان الذي يُحسب على المعارضة (…) وسبق أن نُفي واعتُقل، يفتتح معرضاً للموديل العاري (…) في خضم معركة حلب والمجازر بحق مدنييها»، كتب أحد مواقع «الربيع القطري»: كان ذلك قبل أن تتلو قطر فعل الندامة طبعاً، وتعترف بجرائمها في سوريا، ثأراً من الأخ الوهابي الأكبر الذي ضربها بلعناته! اليوم تحرّرت حلب، وعلى طريقها تتحرّر كل سوريا من الجراد الأسود الذي لا يحمل إلا الطاعون الفكري والحضاري، والخراب والموت. أما التحدّي الذي رفعه يوسف عبدلكي فما زال راهناً: المجاهرة بحريّة الفنّان، من قلب الجرح النازف، واستعادة الزمن التنويري النهضوي الحقيقي الذي لا يقوم ربيع عربي من دونه.
الموديلات العارية كما هو معروف جزء من تقاليد دراسة الفن التشكيلي وأكاديمياته، ونوع فنّي مكرّس في تاريخ الفن. ويوسف عبدلكي يعيد الاعتبار في معرضه الحالي إلى تقاليد الفن العريقة وجذوره الأكاديمية، وإلى التجارب النهضويّة التي خاضها رواد الفن الحديث وآباؤه، في دمشق وبيروت وعواصم عربية أخرى بعد عودتهم من الأكاديميّات الغربيّة. وقد ربطت كيرستن شايد، عالمة الأنثروبولوجيا والمتخصصة في تاريخ الفن، بين لوحات العري العربيّة التي أبدعها جيل الرواد في العالم العربي منذ الثلاثينيات، ومشروع النهضة القوميّة. وجمعت أعمالاً عارية بتوقيع مصطفى فروخ، وعمر الأنسي، وجورج داود قرم، لتبيّن آليات وتقنيات ومرجعيّات استعمال العري «بوصفه حمّالاً لمنظومة مفاهيم ومبادئ ترتبط بالقيم المدنية، والمدينية، وحقوق المرأة، والتقدم والمساواة، والتنوع، والحرية والديمقراطية في حقبة مفصلية هي النصف الأول من القرن العشرين». كان عنوان المعرض الذي احتضنته، ربيع 2016، الجامعة الأميركيّة في بيروت: «أنصار العري ــ الفنان المستنهض».
اليوم هدأت العاصفة طبعاً، لكن بشكل موقت بلا شك. فالردّات والرجعيّات تحيط بحلمنا النهضوي من كل حدب وصوب، طالعة من مستنقع الجهل والخوف والقهر الاجتماعي والحضاري والانغلاق… هذا المستنقع الذي يغذّيه الاستعمار، وترعاه الرجعيّات النفطيّة والإسلامويّة. لذلك يبقى رهان الفنان السوري مهدداً، وإنجازه الفنّي هشّاً ومعرّضاً للتدمير. بعض الجمهور الغربي في باريس سيتعامل مع هذه التجربة كمادة إيكزوتيكيّة: «عاريات» في زمن الدواعش والموت العظيم. لكنّها تجربة فكريّة قبل أن تكون جماليّة. فعل تمرّد على التصحّر الحضاري. أما زال هناك أكاديميّات فن عربيّة ـــ مغرباً ومشرقاً ـــ تلجأ في مناهجها إلى الموديل العاري؟ يوسف رسم في قلب المجزرة، طوال سنوات، في حضرة «موديلات» من طالباته، وخرج بمجموعة فحميّات مدهشة، مثقلة بالحزن والخوف والحداد. لوحات، لا يمكن إلا أن نراها امتداداً لأعماله المأسويّة السابقة التي تستعيد طقوس الفقد والعنف والحداد. هنا يقف إيروس في مواجهة ثاناتوس! لوحاته أيضاً تمجّد، كما أعمال المرحلة السابقة، روح الانتفاضة والمعارضة الأصيلة، من أجل القضايا الاجتماعيّة والوطنيّة والسياسيّة المحقّة التي منحها يوسف ورفاقه حياتهم وعمرهم ونضالهم. وما زالوا. كلا لم يتنازل يوسف قيد أنملة عن مبادئه… إنّه الأم الأصليّة التي تفضّل ابنها غير مفسوخ، وإن بقي في يد غير شرعيّة. تماماً كما عند بريخت في «دائرة الطباشير القوقازيّة». لذا تراه يقول لقتلة الحضارة، إن الثورة لا يرعاها الاستعمار، ولا يغذيها أهل الانحطاط والتخلّف. وإن الجسد أيضاً، (الجسد المعنوي والثقافي والاجتماعي والرمزي) حجر أساس في صرح الديمقراطيّة المنشودة. حين اعتقل هذا الفنان الأصيل في دمشق (تموز/ يوليو، 2013) كتبنا في «الأخبار»: «كلنا يوسف عبدلكي». اليوم نكتب: «كلنا عاريات يوسف عبدلكي».