لن نعتبر بقاء الولايات المتحدة وحدها خارج اتفاقية باريس المناخية، بعد دخول سوريا إليها أمس، أهم حدث في هذه الجولة الـ 23 من مفاوضات المناخ الدولية التي تعقد هذا العام في بون (ألمانيا). فحتى لو لم تنسحب إدارة الرئيس الأميركي من هذه الاتفاقية السطحية أصلاً، ما كان شيء سيتغير في المناخ العالمي المتجه نحو كوارث حتمية ليس أدل عليها من الأعاصير والفيضانات وارتفاع درجات حرارة الأرض والجفاف... التي تزداد قوة سنة بعد أخرى.
كما لا يعتبر اختفاء الأصوات المشككة بظاهرة تغير المناخ حدثاً جديداً أيضاً، إذ لا تزال كل دول العالم تقر وتعترف بها بدليل عدم انسحابها من الاتفاقية الإطارية لتغير المناخ التي صدقت عليها كل دول العالم (عام 1992) بما فيها الولايات المتحدة الأميركية، والتي لا تزال تشارك في اجتماع الدول الأطراف السنوية، وقد تمثلت هذا العام بوفد رسمي أيضاً يرأسه توماس شانون، وهو دبلوماسي وصف تغير المناخ من قبل بأنه "أحد أكبر التحديات التي يواجهها العالم"!
لقد حصل سوء فهم مقصود، أو غير مقصود، لمعنى موقف الرئيس الأميركي من اتفاقية باريس، الذي لم ينسحب من الاتفاقية الإطارية، بقدر ما اعترض على الإجراءات (في الاتفاقية) التي لا تطال منافسي بلده في السوق، بقدر ما تطال مصالح القوى الاقتصادية في بلاده، وهو الموقف التاريخي للولايات المتحدة الأميركية أمام كل جولة مفاوضات وأثناء الاستحقاقات للوصول إلى اتفاقيات أو بروتوكولات، كبروتوكول كيوتو عام 1997.
ولذلك اعتبرنا أن اتفاقية باريس لن تغير في الاتجاهات السلبية للدول (كل الدول) تجاه المناخ، طالما أن هذه الاتفاقية ليست ملزمة بتخفيض الانبعاثات، بحدود تعيدها إلى ما قبل الثورة الصناعية، ولا تساهم في حل الخلافات بين الدول حول من يتحمل المسؤولية التاريخية لهذه الأزمة (الدول المتقدمة والغنية) ومن يتحمل كلفة الأضرار والتكيّف والتخفيف. وقد تركت اتفاقية باريس لكل دولة أن تتقدم بالتزامات تراها هي مناسبة دون ضوابط ومعايير! ولذلك كان مستغرباً موقف الرئيس الأميركي، وهذه الضجة العالمية المفتعلة بعد انسحابه، والتي لا يمكن تفسيرها إلا من ضمن أسبابها الداخلية، بكونه لم يتراجع عن وعوده الانتخابية، وبكونه لم يخرج عن المواقف التقليدية بالدفاع عن مصالح القوى الاقتصادية الكبيرة في بلاده ضمن المنافسة القوية في السوق العالمية.
غير ذلك لا يمكن توقع شيء جديد من هذه الجولة من المفاوضات المناخية التي تعقد الآن في بون وتنتهي في الـ17 من الجاري.
أما بالنسبة للانقسامات التقليدية بين الدول النامية والدول المتقدمة، فمن المتوقع أن تبقى المواقف هي نفسها. فبالنسبة إلى الدول المتقدمة والغنية فهي تريد من الدول النامية أن تلتزم مثلها بخفض انبعاثاتها، بينما ترى الدول النامية وبينها العربية، أن الهدف من المفاوضات هو إلزام الدول المتقدمة بالمساهمة في تقديم التمويل والتكنولوجيا وبناء قدرات الدول النامية لتنفيذ إجراءات التخفيف والتكيف، خصوصاً أن الدول المتقدمة هي المتسببة الرئيسية في ظاهرة التغيرات المناخية، إذ سعت على مدار قرن لبناء رفاهيتها على حساب البيئة العالمية.
وإذ يتحدث البعض عن تغير في التحالفات بعد انسحاب الولايات المتحدة الأميركية، ظهرت في الجلسة التي عُقدت على هامش مؤتمر مونتريال (الذي يبحث في قضية الأوزون)، قبيل انعقاد قمة المناخ، التي دعت لها وزيرة البيئة الكندية، يشيرون إلى نشوء نوع من تكتل جديد يضم الصين وكندا والاتحاد الأوروبي في قضية تغير المناخ، حين وعد رئيس الوزراء الكندي بأن كندا تسعى جاهدة لتحريك المفاوضات حول التمويل والتكنولوجيا والتفكير في بدائل لسد الفجوة بعد انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من الاتفاقية.
ولكن يعرف المتابعون أن "الفجوة" الحقيقية هي اقتصادية بالدرجة الأولى ومناخية بالدرجة الثانية، وأن على العالم أن يغير في بنية اقتصاد السوق بشكل جذري لا سيما في سياسات إنتاج الطاقة، لناحية ترك أكثر من 80% من الوقود الأحفوري على أنواعه تحت الأرض واعتماد سياسات تقشفية شاملة ووقف السباق على الطاقة والأسواق... وأن العالم يحتاج إلى تضامن حقيقي بين دوله لسد هذه الفجوة، وأن ذلك لن يحصل بإنتاج أحلاف شكلية، أو ذات خلفيات تنافسية تقليدية في الأسواق، بل بإجراء تغييرات جذرية في طبيعة وبنية اقتصاد السوق نفسه، الذي يتنافس عليه الجميع ويتسببون (في هذه المنافسة) بإنتاج انبعاثات قاتلة، تماماً كمصارعة الثيران على أرض رملية، التي تنتج الكثير من الغبار تساهم في اختناق المتصارعين جميعاً في النهاية.

* للمشاركة في صفحة «بيئة» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]