يمكن، كما تحاول أن تظهر الصورة المرافقة، وبحال كان كوننا محدّباً وليس مسطّحاً، أن نمر من منطقة إلى منطقة بعيدة أخرى على هذا السطح الفضائي عبر كسر بنية المكان وقطعها مباشرة في خطّ مستقيم نحو المكان المنشود. هذ الفكرة النظريّة النابعة من التحليلات الرياضيّة للنسبية العامة تعتبر صحيحةً ضمن سياقها النظري، لكن التوقّعات أو الفرضيات التي لا يمكن اختبار صحّتها من خطئها، لا تعتبر نظريات مثبتةً علمياً.
فالعلم بتعريفه يشترط إمكانية اختبار النظريّة وفحص توقّعاتها، أمّا بعض النظريات فتبقى خارج دائرة الاختبار لفترات زمنيّة كبيرة بسبب محدوديّة الموارد والتكنولوجيا اللازمة لذلك. وفي حين ظلّت بعض جوانب نظريّة النسبيّة العامة خارج مجال الاختبار، إلّا أنّ معظم جوانبها الأساسيّة خضعت للفحص العلمي، وأثبتت دقّةً بالغةً تعطيها صدقيّة علميّة كبيرة مثلما جرى مع رصد الأمواج الثقالية أو موجات الجاذبية التي تهزّ بنية الكون عند تصادم أجسام كبيرة دوّارة. ومن المعروف أيضاً أنّ الكثير من علومنا وتطبيقاتها الحديثة تعتمد بشكل قاطع على حسابات النسبيّة العامة مثل أنظمة تحديد المواقع عبر الأقمار الاصطناعية التي يمكنها تحديد موقع ما على سطح الأرض بدقة متناهية تبلغ السنتيمترات من ارتفاعات تبلغ آلاف الكيلومترات. ولو اعتمدت هذه القياسات والحسابات على الفيزياء الكلاسيكية مثل نظريات نيوتن حول الجاذبية، لكان هامش الخطأ فيها يقاس بالكيلومترات.

نظرية الثقب الدودي

ظهرت هذه الفكرة للمرّة الأولى عام 1916، رغم أنّها لم تحمل هذا الاسم في حينه. فعندما كان الفيزيائي النمسوي «لودفيغ فلام» يراجع الحلول الرياضية لمعادلات نظريّة النسبية عند «ألبرت أينشتاين»، لاحظ وجود حلول أخرى ممكنة أيضاً، وقد سماها «الثقب الأبيض» لأنّها تعتبر حلولاً معاكسة زمنياً لمعادلات «الثقب الأسود» الذي يبتلع ضمن نطاق معيّن كل الأجسام والأشعة الواردة حوله، ولا يتيح خروج أي معلومات عنها فيشكّل مقبرةً للمادة والطاقة. وبعد عدّة سنوات، وتحديداً عام 1935 عاد أينشتاين إلى هذه الحلول التي وجدها «فلام» وعمل مع فيزيائي آخر اسمه «ناثان روزن» على تفسير هذه الحلول الرياضية التي تتوقّعها نظرية النسبية العامة، ووجد أنّها تشكّل عملياً جسوراً في بنية الزمكان (spacetime) تسمح بالسفر بين نقطتين متباعدتين من خلال طرق مختصرة توفّر وقت السفر ومسافته. هذه الطرق المختصرة تسمّى علمياً «جسور أينشتاين - روزن» أو، بتعبير أكثر شهرةً وإثارة، الثقوب الدوديّة.

تسمح نظرية النسبية العامة بأن يتشكّل ثقب دودي من ثقبين أسودين متقابلين وعنق يربط بينهما


أين يمكن أن توجد؟

يتشكّل كل ثقب دوديّ من فَمَين وعنق يربط بينهما، ويأخذ هذا العنق شكلاً بيضاويّاً، وتوجد وفق حلول المعادلات الرياضيّة أنواع وأشكال من هذه الممرّات تختلف في كلّ منها المسارات المحدّدة والوقت اللازم لعبورها. إنّ هذه الفكرة لا تزال تعتبر فرضيةً علميّةً غير مثبتة حتى اليوم، ولا يتوقّع العلماء إيجاد ثقب دودي مادي ملموس في الفضاء حولنا في أي وقتٍ قريب.
تسمح نظرية النسبية العامة بأن يتشكّل ثقب دودي من ثقبين أسودين متقابلين وعنق يربط بينهما، وهذا هو الاحتمال الأقرب اليوم للبحث عن إمكانية وجود هذا الجسم حقّاً في فضائنا الشاسع. إلّا أنّ الدراسات أثبتت أنّ الثقوب السوداء التي نعرفها والمشكّلة من أفول نجوم كبيرة ذات أوزان تبلغ أضعاف وزن الشمس، لا يمكن أن تخلق من تلقاء ذاتها ثقوباً دوديّةً بخصائص كما تصفها النظريّة القائمة. لذلك، لا تزال هناك طريقٌ طويلةٌ من البحث قبل فهم آليّات تشكّل هذه الممرات المختصرة في الكون، لمعرفة أين يبدأ البحث عنها، وعلامَ يجب أن يستند ذلك البحث؟

مشاكل العبور من خلال الثقوب

عادةً ما يأخذ الخيال العلمي مداه أمام أي وضعٍ علميّ غامض، فكيف إذا كان أمام فكرةٍ جميلةٍ كثقب يسمح بالسفر عبر الكون خلال أوقات قصيرة؟ تنهمر الأفكار والتخيّلات في الأفلام والقصص المنشورة، غير أنّ العلم شيءٌ وخياله شيءٌ آخر. فالسفر من خلال الثقوب الدوديّة أكثر تعقيداً من تلك الأفكار المبسّطة، ليس بسبب أنّنا لا نزال غير واثقين من وجودها، ولا نعلم مكان وجودها إن صحّ أمرها، بل لأسباب علميّة وبنيويّة أصعب وأدقّ. إذ تشير الحسابات المفصّلة الى أن قطر هذه الثقوب صغيرٌ جدّاً وهو يبلغ رقماً ميكروسكوبياً يساوي سنتيمتراً، أي أنّه يقل عن عرض ذرّةٍ واحدةٍ بأضعاف مضاعفة! غير أنّ الحالمين يجدون لهم بصيص أملٍ، إذ تتوقع النظريّة النسبيّة نفسها أنّ الكون مستمرٌ بحالته التوسعيّة، وبالتالي يمكن يوماً ما، ليس بقريب، أن تتوسّع أبعاد هذه الثقوب قليلاً أيضاً!
أماّ المسألة الإشكاليّة الثانية فهي استقرار الثقوب وثباتها. إذ تشير المعادلات النسبيّة نفسها الى أنّ هذه الثقوب تنهار على ذاتها في حال دخول كميّات قليلة من الطاقة أو المادة فيها، ولا يمكن عمليّاً المرور من خلالها دون انهيارها إلّا لأشكال محدّدة من المادة التي لا نعرف حتّى إن كانت موجودةً في كوننا أو لا. هذه المادّة الغريبة التي يمكنها عبور الثقوب الدودية بشكل مستقر ليست حتّى المادة المظلمة، بل هي مادّة ذات طاقة سالبة ولا توجد علمياً إلّا في إطار بعض الحالات غير المستقرّة للفراغ في نظريّة الحقول الكموميّة. وهذا كلّه يعني أنّنا نبني مجهولاً على مجاهيل أخرى، ولا مجال في أي مدى منظور لأي اختبار فعلي يتيح مرور هذه المادّة من ثقوب دوديّة لا نعرف أين هي.
وتذهب بعض الدراسات أبعد من ذلك، لتثبت إمكانية السفر عبر الزمن من خلال هذه الثقوب أيضاً، إذ يمكن أن يؤدي الخروج من الفم المقابل إلى العبور نحو زمن ما في الماضي بالنسبة إلى موقعنا الحاضر، إلّا أنّ ذلك يعتبر عملياً أبعد وأصعب من السفر عبر المكان. وقد صرّح الفيزيائي البريطاني المشهور «ستفين هوكنغ» بأنّ الثقب الدودي لا يمكن استخدامه للسفر عبر الزمن، بل هو مجرّد طريق مختصرة بين مكانين، بحيث من الممكن أن يجعل من الأشياء البعيدة أكثر قرباً.
إذاً، تشير كل الدراسات الحديثة إلى استحالة السفر المادّي أو البشري عبر هذه الثقوب إن وجدت، ولا يصلح استخدامها الورديّ حتى للخيال العلمي نفسه. ويستمر البحث النظري، والمعادلات الرياضية وحلولها وتعتبر هذه من أكثر مجالات البحث النظري استقطاباً للفيزيائيين، بالإضافة إلى نظرية الأوتار الفائقة الدقّة، غير أنّ كلتا النظريتين لا تزالان عملياً بعيدتين كلّ البعد عن أي اختبار تطبيقي يعطينا فرصة إثباتهما أو إنكارهما، في المدى المنظور على الأقلّ.