مَن يذكر دعد حداد... التي حملت الزهور الى قبرها؟ | ماتت دعد حدّاد (1937- 1991) وحيدة ومنبوذة ومشرّدة. الآن علينا أن نحتفي بهزيمتها المبكرة (أم بهزيمتنا؟)، بنكراننا المعلن لتلك الشاعرة العزلاء إلا من نصوصها المتوحشة. اقُتلعت من بيتها في شارع العابد بمكيدة عائلية، فاضطرت أن تقطن غرفة رطبة في مستودع للكتب، تتوسد معطفها وتنام، مثل طائرٍ جريح فقد عشّه.
على الأرجح كانت تقضم وحدتها مع الفئران. امرأة بدينة بقبعة من القش، تتسكّع في شوارع دمشق، بلا أصدقاء، تكتب عزلتها بدون زخرفة أو بلاغة، بوصفها احتجاجاً على ما انتهت إليه من حطام. هكذا تلقفنا مجموعتها الأولى «تصحيح خطأ الموت» (1981) بدهشة. شاعرة لا تشبه أحداً إلا ذاتها. لم تكن جزءاً من تيار شعري، بقدر ما هي رغيف شعري طازج، خرج توّاً، من تنور التجربة. زهرة برية تلفت انتباه الرعاة وحدهم إلى لغز رائحتها. وهكذا حضر الموت باكراً إلى معجمها، بجرعات متدرجة، من دون هيبة أو خشية، حتى إنه صار أليفاً، إذ لطالما كانت حياتها على حافة الهلاك. وتالياً، فإن مراودة الموت بمثل هذه البسالة، كانت ضرباً من النجاة، في الوقت المستقطع، لحياة رثّة، أثثتها بالكتابة كتعبير جارح عن الوحدة والحزن وشغف الحب، بسريالية تشبه يومياتها. نصوص بحوافٍ خشنة، تتناسل من أحشائها، أقسى أنواع الوحدة «لماذا تعصف الريح بي، وحدي؟» تتساءل. لكنها، بعد قليل، ستستثمر العاصفة برغبة الطيران «أودُّ أن أطير، أن تكون مهنتي الخطر». سننتبه بأنها قد كتبت معظم نصوصها في ليلٍ متأخر، تشكو الوقت البطيء، وانتظار بزوغ النهار. ها هي تربح جولة إضافية مع الحياة، ولكن أي حياة؟ في ضربتها الحاسمة الثانية «كسرة خبز تكفيني» (1987)، تتضاءل قدرتها على العيش، وإذا بها ترتطم بمفردات الموت بيقينٍ تام «لا أحد يستطيع أن يسكن قبري/ أنا من تحمل الزهور إلى قبرها وتبكي من شدة الشعر/ أغمضوا أعينكم/ سأمر وحيدة كرمح»، و«فوق جبين العالم، قبرٌ أبيض، اقتلني واربح دولاراً»، و«استيقظوا الآن، أنا وحيدةٌ، ها هي أجراسي وتوابيتي».
ليس تابوتاً واحداً للمرأة الوحيدة، إنما توابيت، كأنها تدفن معها عشاقها، فالحب بالنسبة إليها «مسوّدة ممزّقة، وسلالم موسيقية». بروفات عشق وغناء لا تكتمل على الإطلاق، وضعتها في مهبّ العزلة، وحافة الجنون. كانت في سنواتها الأخيرة، تقتحم «اللاتيرنا» حانة مثقفي الثمانينات، من دون أن تجد من يجالسها، تشتم بعضهم علناً، ثم تخرج مكسورة، تهشّ بعصاها بقايا القطعان الضالة. لا أحد يعلم أن دعد حداد كانت تنام جائعة، في ليالٍ كثيرة، وكانت تتسلل فجراً إلى سوق الخضر، تتأبط سلّتها، تلمُّ بقايا الثمار المعطوبة. ورغم هذا الألم، وهذه الحشرجة، كانت تكتب يومياً تقريباً «الحائط باردٌ يا أمي! والثلجُ قادمٌ، وها هو صوتي يناديكِ، من خلفِ الأحجارِ والترابِ، فلا صدى لصوتي»، و«رغيفي المسروق والمبلّل... كيف أنتزعه من مخزن الحرية؟».
على أن هذا الضيم والفقدان، لم يمنعاها من أن تدعو إلى سحر الحب «الحب طائر غريب، يودّ أن يعيش بسلام». في الحركة الثالثة من نوتتها الرعوية «الشجرة التي تميل نحو الأرض» (1991) التي صدرت بعد رحيلها، تستكمل الجناز بأسى أكبر، كأنها تعلم قرب نهايتها، ها هي تميل نحو الأرض مثل شجرة عصفت بها قسوة ريح العيش «ثلاثةُ أطفالٍ، يحفرونَ قبري في الثلج: الوحدةُ والحزنُ والحرية». هذا الثالوث رافق خطواتها المتعثرة في عتمة دمشق، فأرّخته في يومياتها بانفعالات متوترة. إذ لا وقت لديها لمراجعة ما تكتب، كأن كلّ ما كتبته كان عريضة اتهام، في المقام الأول، وانتظاراً مضجراً للإغفاءة الأخيرة «منذ عشرين عاماً، وأنا أراقب الشجرة التي تطلّ نافذتي عليها/ معظم الأشجار كانت تتَّجه نحو السماء، إلا هذه الشجرة ما زالت تميل نحو الأرض»، ثم تلحقها بضربة إيقاعية حاسمة «لا شيء أقوى من رائحة الموت في الربيع» (رحلت في 27 نيسان/ إبريل). لكن مهلاً، ليس هذا كل ما لدى دعد حداد. قبل رحيلها، أودعت قصائد لم تنشرها قبلاً، بعهدة صديق تثق به، حملت عنوان «ثمة ضوء»، ستنشر للمرة الأولى، ضمن أعمالها الشعرية الكاملة التي تصدر قريباً بمبادرة شجاعة من «دار التكوين» في دمشق، بعنوان «أنا التي تبكي من شِدَّة الشعِّر»، وبمقدمة كتبها بندر عبد الحميد، وشهادتين من نزيه أبو عفش، وسوزان علي. في هذه النصوص، سنقع من علوٍ شاهق، على ارتباكات العزلة، واضطرابات الكائن الهشّ، والدمار الوشيك. أن نستعيد دعد حداد اليوم، فهذا إيفاء لدينٍ مؤجلٍ وحسب.