تونس | تظاهر المئات من شباب حملة «حاسبهم»، عشيّة أول من أمس، في العاصمة التونسيّة، حيث طالبوا بسحب مشروع قانون «زجر الاعتداءات على القوات المسلحة»، وبالقضاء على العنف الأمني في حق المواطنين.وبدأت حملة «حاسبهم» أول احتجاجاتها الميدانيّة، قبل يومين على حلول الذكرى الخامسة لما يُعرف بأحداث الرشّ، حيث أطلقت القوات الأمنيّة، عام 2012، الخرطوش بكثافة على متظاهرين في ولاية سليانة (شمال غرب البلاد).

وجاء البدء بهذه الحملة مع تصاعد مطالبات النقابات الأمنيّة بقانون يحميها من الاعتداءات، وخصوصاً بعد مقتل ضابط أمن وجرح آخر في هجوم بسكين بداية هذا الشهر. ويعود أصل الاحتجاجات إلى مشروع قانون «زجر الاعتداءات على القوات المسلحة» الذي أحالته حكومة رئيس الوزراء السابق حبيب الصيد إلى البرلمان عام 2015. ورغم تأجيل الأخير نقاش المشروع لمدة تقارب عامين، نظراً إلى أولويّة مشاريع قوانين أخرى، وإلى إشكاليّة المشروع في حدّ ذاته، إلا أنه عاد ليتصدر النقاش بعد احتجاج نقابات أمنيّة على غيابه، وتلويحها بالتصعيد إلى حد الامتناع عن حماية نواب مجلس الشعب، قبل أن تسحب لاحقاً تهديدها. ويتكوّن مشروع القانون من خمسة أبواب تحوي 20 فصلاً، غالبيتها فصول إشكاليّة لاقت تنديداً واسعاً. ومن ذلك مثلاً، فصل يتحدث عن إعفاء الأمنيّين من المسؤوليّة الجزائيّة خلال ردّهم للاعتداء، من دون تحديد دقيق للتدرّج في استعمال القوّة أو طبيعة الاعتداء وما يقابله، وفصل آخر يمنع تداول كلّ معلومة أو وثيقة مرتبطة بالمؤسسة الأمنيّة، مهما كانت طبيعتها، ما يهدّد بالحد من حرية الصحافة وسجن الصحافيّين.
وفور خروج المشروع إلى العلن وتداوله في وسائل الإعلام، شُكّل ضدّه تحالف مدني واسع. واعترض «الاتحاد العام التونسي للشغل» ــ النقابة الأوسع تمثيلاً في البلاد ــ على عدد من النقاط التي طرحها المشروع، وعقد ندوات برفقة نقابات أمنية لتدارس تنقيحه وتصفيته مما يضر بمكتسبات الثورة. كذلك، ندّدت «النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين» بالمشروع، الذي رأت فيه «اعتداءً على حرية الصحافة والتعبير والتظاهر». واصطفّت «الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان»، وعشرات المنظمات المدنية الأخرى، إضافة إلى أحزاب المعارضة، في صف المنتقدين لما اعتبروه قانون «تحصين الأمنيين من المحاسبة والمساءلة القانونية».
وتحت أثر الضغط، راجعت وزارة الداخلية، بالتعاون مع النقابات الأمنية، النسخة الأوليّة لمشروع القانون. وشملت التغييرات الطارئة عليه اسمه الذي صار «قانون حماية القوات المسلّحة العسكرية، وقوات الأمن الداخلي والديوانة»، كما حُذفت الفصول التي تمسّ بحرية الإعلام، ما قلّص عدد فصوله الإجمالي إلى 14 فصلاً. وبذلك، بدأت لجنة التشريع العام داخل البرلمان بمناقشته، قبل أيام، أي قبل أن تحيله إلى الجلسة العامة لإغلاق ملف ترى فيه النقابات الأمنية استحقاقاً طال انتظاره.
لكن رغم تخفيف حدّة مشروع القانون، واحتمال تعديل صياغته داخل البرلمان، لمواءمته من جهة مع الدستور والمواثيق الدولية، ولإيجاد صيغة توافقية تُرضي جميع الأطراف من ناحية أخرى، لا ترى حملة «حاسبهم» في سنّه ضرورة. وتبني الحملة طرحها على افتراض أن القانون، في حال إقراره، سيُعطي القوات الأمنية سلطة تزيد من غطرستها المتفاقمة أصلاً. وتطرح خلافاً له، وإن على سبيل المجاز، سنّ قانون «زجر الاعتداءات على المواطنين»، الذي يحميهم من عسف الأجهزة الأمنيّة.
وتستند الحملة في موقفها إلى قرائن مؤيّدة. وضمن دعايتها المضادة لمشروع القانون، التي تديرها أساساً عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ، تنشر «حاسبهم» شهادات لضحايا العنف الأمني على امتداد السنوات الماضية. وتشمل الشهادات جرحى الثورة الذين أغلقت ملفاتهم من دون محاسبة المعتدين، وضحايا أحداث سليانة والحركات الاجتماعية الاحتجاجية الأخرى، إضافة إلى كلمات لعائلات شباب من أحياء شعبيّة قُتلوا في ظروف غامضة داخل مراكز الأمن. ومن ناحية البنية التنظيمية والاحتجاجية والتركيبة البشرية، فإنّ حملة «حاسبهم» وريثة لحملة «مانيش مسامح/ة» (لن أعفو). وتتشكل كلا الحملتين من شباب أحزاب المعارضة، وحركات شبابية ونشطاء مستقلين (تطغى عليهم الميول اليسارية). كما تنتظم كلاهما بشكل أفقي خالٍ من التراتبية، فلا قيادات ولا قواعد، بل تنسيق وتشاور في الخطوات المتّبعة. وتتشابه الحملتان، أيضاً، في تقنيات التعبئة والاحتجاج، إذ يتم التركيز على الدعاية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتركيز رسوم وشعارات على جدران المدن، فيما تحضر اللافتات الساخرة والأهازيج في التظاهرات.
وقد حُلّت «مانيش مسامح»، عقب إمرار قانون «المصالحة في المجال الإداريّ»، منتصف الشهر الماضي. لكن الحملة وإن لم تحقق هدفها بإسقاط القانون، إلا أنّها كذلك لم تفشل كلياً. ومن النجاحات التي تحققت حينها، تغيير صيغة القانون على نحو جذري حوّله من قانون «مصالحة اقتصادية وإدارية» إلى آخر متعلّق بالإدارة حصراً. بناءً على ذلك النجاح الجزئيّ، تولّد عن «مانيش مسامح» بديلها المرحلي. وضمن هذا الأفق السياسي، ستكون أمام حملة «حاسبهم» في الأسابيع، وربما في الأشهر المقبلة، مهمة إلقاء الضوء على ما يُراد في كثير من الأحيان إخفاؤه وراء شعار «لا صوت يعلو فوق صوت محاربة الإرهاب»، وفتح جبهة نقاش وجدل جديدة تمضي بتونس خطوة أخرى في مسار بناء جمهورية ثانية يكون للمواطنين فيها الصوت الأعلى.