الحياة لدى سعدي يوسف (1934) قصيدة شعر: الأحداث المتلاحقة، الحوار العابر مع مترجل في الشارع، أوراق الأشجار المتساقطة، صورة كوندليزا رايس أمام البيانو، الصواريخ الأميركية على بغداد، بوابة بناية ونوافذها، يافطات الشوارع، مؤامرات الساسة وأحاديثهم على شاشات التلفزيون، وابتساماتهم في الصور الملفقة في الجرائد، صيادو السمك، ميادين العواصم، وحانات العالم، أوراق الأشجار المتساقطة في الخريف، كأس النبيذ، قبلات العاشقين، النوافذ. الصمت أيضاً لدى صاحب «الأخضر بن يوسف» قصيدة!هل الحياة – بالنسبة إليه – قصيدة أم أن القصيدة حياة؟
«الكتابة صلاتي» هكذا يقول دائماً. منذ أن كتب قصيدته الأولى وهو لا يتوقف عن إنتاج الدهشة. ما إن يصل إلى مقترح جمالي وفني في قصيدته حتى يغادره إلى مقترح جديد، كأنه يمتلك تلك الروح القلقة أو «روح الطائر» كما يسميها عباس بيضون.

مغامرة سعدي يوسف الجديدة ديوانه «خريف مكتمل» الصادر عن «منشورات الجمل» مصحوباً برسومات داخلية للفنان العراقى صدام الجميلي. تجربة يعيدها سعدي بعدما شارك الفنان جبر علوان في قصائد «إيروتيكا»!
اختار لديوانه الجديد سبعين قصيدة، من مئات أنجزها في السنوات الأخيرة، ربما، ما رآه هو بعيداً عن السياسي العابر.
في الديوان، يواصل صاحب «أغنيات ليست للآخرين» مشروعه الشعري، حيث الكثافة اللغوية والإيقاع الخافت. قصيدته مقنعة، يهرب فيها من الأنماط الجاهزة والمستهلكة. شاعر لا يستعير أصابع الآخرين:
«لستَ أبا تَمّامٍ، كي يحبسَكَ الثلجُ
ولستَ الضِّلِّيلَ، طويلَ الليلِ، بِدَمّونَ
ولا ريلْكة في حِصْنِ دْوَيْنو
أو هامْلِتَ في سجنِ الدانيماركِ؛
ولستَ ولستَ
ولكنك تأبى أن تخرج، هذا اليوم، لكي ترتقي التل
كأن كرات رصاص أثقلت القدمين
وأن عروقك ماء
وعيونك طين».
لكنها – أيضاً- القصيدة التي تمتلئ بأوجاع المنفى، وآلام الغربة، والصقيع غير المحتمل. لكنه المنفى/الضرورة:
«أنتَ تعرفُ
(رُبّتَما الآنَ)
أنّ البلادَ التي نتداولُها في الأغاني الفصيحةِ
ليستْ بلاداً...
لقدْ بَعُدَ العهدُ بي، وبكَ؛
الآنَ قد نتفاهَمُ:
نحن انتهَينا إلى أنّ ما كان بيتاً لنا، صارَ مأوى سِوانا، ونحن انتهَينا إلى أننا لن نعودَ إلى بيتِنا لاجِئَينِ:
لقد كان بيتُكَ، دارتُكَ البابليّةُ، ذاتُ التماثيلِ، في الأعظميّةِ
أمّا أنا فلقد كنتُ مستأجِراً منزلاً عند «زَيّونةَ»...
الآنَ
لا الأعظميّةُ ظلّتْ
ولا دارُ «زَيّونةَ»
الغرَباءُ أقاموا مُعَسكَرَهم ثم قاموا يُنادونَنا، كلَّ صُبْحٍ، بتكبيرةٍ من مكبِّرِهم في المعسكرِ: صَلُّوا»
تبدو «الخريف» إحدى المفردات الأثيرة لدى سعدي في ديوانه، بل في قصائده الأخيرة.. هل هو متعب من بقائه «بعيداً عن السماء الأولى»؟ ربما، لكنه أيضاً يواصل حريته:
«سأمضي حتى آخرةِ الكونِ
سعيداً حُرّاً
مثلَ جوادٍ عربيٍّ...
مِثلي!».
لا يكبر الشعراء، لا يتكبرون، إذ يكبرون كما يقول سعدي في رثائه للشاعر التونسي محمد الصغير أولاد أحمد. وقصيدة صاحب «كل حانات العالم» أيضاً كذلك لا تزال تفتح آفاقاً جديدة، وسككاً بعيدة للشعر والفن!
«خريف مكتمل» لسعدي يوسف ــ «منشورات الجمل»