شهدت الدول الأوروبية في السنوات الأخيرة ظاهرة صعود الحركات اليسارية واليمينية والوطنية (وحتى الفاشية)، التي كان من نتائجها وصول «سيريزا» إلى الحكم في اليونان، وتحوّل «بوديموس» إلى لاعب أساسي في إسبانيا، وفوز اليمين في بولندا على حساب الوسط، وحيازة اليمينية المتطرفة مارين لوبن (الداعمة لخروج فرنسي من الاتحاد الأوروبي) 33% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وتحوّل حزب «العمّال» البريطاني إلى أكبر أحزاب أوروبا، وأخيراً محاولات الانقسام في كاتالونيا.
في هذه الفترة، ساد رأي بأن لألمانيا حصانة ضد هذه الحركات والأحزاب؛ ولكن في النهاية وصلت هذه الموجة إليها، وإن تأخرت.
تُسارع المستشارة أنجيلا ميركل الآن إلى تشكيل ائتلاف مع الحزب الديموقراطي الاجتماعي اجتناباً لحصول انتخابات جديدة، متخوّفةً من أن ذلك قد يقوّي موقع «حزب البديل الألماني» اليميني المتطرف، والذي يعتبر نفسه مسؤولاً عن إضعاف ميركل وإعادة الحركة السياسية إلى برلين. وقال المرشح الأول للحزب، ألكسندر غولاند «إن الوضع إلى انحدار بالنسبة إلى ميركل الآن، وهذا جزء من إنجازنا»، مضيفاً «لقد انتهى وقتها ــ نريدها أن تغادر الساحة السياسية»، مرجحاً أنه في حال إعادة الانتخابات من «المرجّح أن نحقق مكاسب».

تفكك الاتحاد
الأوروبي ليس خبراً سارّاً
للمملكة المتحدة

بغض النظر عن تشكيلة الحكومة التي ستنبثق عن المفاوضات التي تخوضها الأحزاب الألمانية الآن والتي تهدد موقع ميركل، فإن الاحتمال الأكبر هو أن هذه الحكومة سوف تكون ضعيفة داخلياً وغير قادرة على لعب الدور المهيمن ذاته التي كانت تلعبه برلين في أوروبا في العقود الماضية على مستوى اتخاذ القرارات في الاتحاد الأوروبي. قد يكون ذلك خبراً سارّاً للانفصاليين في أنحاء أوروبا، إذ فيما سيعني اتحاداً أكثر صرامةً، يعني أيضاً اتحاداً أقل قوّةً وقدرة على تطبيق سياساته المعتادة من معاقبة من لا يقبل (أو من يعاني إلى حد الرفض) بسياسات وبنية الاتحاد مع ضمان الانصياع. ألمانيا ضعيفة يعني اتحاد ضعيف، يعني عودة الأصوات المعارضة على أشكالها، يعني صرامة أكبر في السياسات التعسفية... كلّها عوارض انحلال.
منذ بداية القرن الـ 21، مع تخطي ألمانيا مصاعب الانضمام إلى اتحادٍ، وصعودها إلى مستوى المهيمن الأول بعدما كانت تتشارك الموقع مع فرنسا، والاتحاد يأتمر بأوامر برلين. وقد ظهر ذلك جليّاً في تعاطي الاتحاد مع الأزمات المتتالية التي أصابت أوروبا منذ أزمة 2008 المالية وما تبعها. كان نفَس الحكومة الألمانية، ومستشارة البلاد، أنجيلا ميركل، في كل سياسة يقترحها الاتحاد والمصرف المركزي الأوروبي ردّاً على الأزمات. وتجلّى ذلك بأوضح صوره في التعامل مع الأزمة اليونانية، وخصوصاً بعد انتخاب «سيريزا» والاستفتاء الشعبي العام الذي أمر الحكومة بعدم الانصياع لأوامر «الترويكا» التي حمّلت اليونان أعباء لم تكن تختصر بقروض خيالية و«إصلاحات» ذات نتائج كارثية، بل أيضاً حمّلتها أعباء الأزمة الأوروبية ككل. لتخفي حقيقة أن الاتحاد بات على مشارف الانتهاء، قامت ألمانيا بمعاقبة اليونان على «فسادها»، حتى إن الخطاب المهيمن كان حتى 2014 أن اليونانيين هم بطبيعتهم شعب فاسد لا يمكن أن يحتكم لمعايير اليورو. يعلم «الترويكا» أنه ليس بإمكان اليونان دفع الديون الخيالية التي أجبره على مراكمتها، ولكن المشكلة لا تكمن هناك بالنسبة إلى ألمانيا، بل في انصياع وقبول اليونان بما تأمر به الأخيرة من سياسات تعطي طابع القوة للاتحاد، بينما هو يتفتت من الداخل.
بعد نجاح بروكسل بقمع اليونان، وإخماد الأصوات اليسارية المعارضة لها في اسبانيا والبرتغال وغيرها، حتى باتت تلك الأحزاب موضوع عشرات الكتب ومئات المقالات والبحوث لا أكثر، جاء دور بريطانيا التي أمضت معظم وقتها منذ الانضمام إلى الاتحاد وهي تفكّر بالخروج منه. وبخطوة غبية لرئيس الحكومة السابق ديفيد كاميرون لتثبيت قوته، جاءت نتيجة الاستفتاء وبدأت التحضيرات للخروج. صعد اليمين المتطرف للحظات، بات نايجل فاراج حديث الصحافة البريطانية، كيف يشرب جعته ويدخّن سيجارته، كيف يتلاعب بعقول أهل الشمال من دون أن يحظى بأصواتهم. اختار الشعب الخروج من الاتحاد ولم يحظ حزب فاراج بمقعد واحد حتى في البرلمان خلال الانتخابات العامة في الصيف الماضي، ثم اختفى. كان لفاراج و«حزب الاستقلال البريطاني» وظيفة واحدة بنيوياً: تحقيق «البريكست» ثم الاختفاء.
اليوم، يستغل رئيس المفوضية الأوروبية، جون كلود جونكر، ضعف موقف الحكومة البريطانية نتيجة الانقسام الداخلي في الحزب «المحافظ» الحاكم بين مؤيد لـ«بريكست» يتضمن شروط تعاون مع الاتحاد (سوق مفتوح وقوانين هجرة وتنقّل مسهّلة وغيرها) وبين مؤيد لـ«بريكست» حازم يقطع كل العلاقات الاستثنائية مع اليورو، كما يستغل الضعف الاستثنائي لرئيسة الحكومة تيريزا ماي إثر المعارضة الهائلة التي تتعرض لها من قبل حزبها و«العمّال» الذي بات أكبر حزب في أوروبا. يخاطب بريطانيا بحزم وشجاعة من تحتم عليه الموت. يعلم أنه في نهاية المطاف سيضطر الى التفاوض مع لندن، لأنها ليست أثينا ولا يمكنه سحقها والتنكيل بجسدها كما حصل مع اليونان، وخصوصاً مع انشغال ألمانيا بحل أزمة داخلية لن تنتهي بانتصار صلب لأحد. عودة الحيوية السياسية إلى برلين يعني أن ميركل لم تعد المهيمن في بلادها حتى تهيمن على سياسة الاتحاد. هذا ليس لتصوير بريطانيا على أنها في موقع القوي، تفكك الاتحاد الأوروبي ليس خبراً سارّاً للمملكة المتحدة، والتي أيضاً من المتوقع أن تشهد انقسامات داخلية (غالباً اسكتلندا وربما إيرلندا) إذا لم تتوصل «دونينغ» الى نتيجة مرضية للجميع مع الاتحاد.
قد تتراوح الآراء حول موقع ألمانيا في الاتحاد ودورها، بين السلبي والإيجابي، كما قد تتراوح الآراء حول الاتحاد دعماً ومعارضةً، ولكن لم يعد بإمكان أحد البت بأنه قابل للاستمرار سياسياً في بنيته الحالية. ما يحدث في ألمانيا اليوم، وما حدث في السنوات الماضية في دول أخرى يثبت أن بنية الاتحاد هي ذاتها تنتج العوامل التي تسمح لصعود حركات شعبوية يمينية متطرفة، ووصولها إلى قلب الاتحاد، أي ألمانيا، يعني أنه لا يمكن لـ«قيم أوروبا» إخفاء حقيقة أن حزب «الجبهة الوطنية» الفرنسي، و«الاستقلال البريطاني»، و«القانون والعدل» البولندي وغيرها منتجات أوروبية بحتة اتخذت أشكالاً متعددة وافت عصر «التنوير»، والحربين العالميتين، والاتحاد بتطوره، وتبقى تنتظر أوروبا عند كل أزمة لتفاقمها.