يصعقك خبر موت جلال خوري لأنّك لم تتهيّأ له. لم ينزوِ في بيته، لم يعتزل. لم ينزلق إلى مجرور الطائفيّة، على امتداد الحروب الأهلية التي شهدها لبنان، وبعدما ضرب طاعون المذهبيّة ديار العرب. لم ينسحب، لم يصمت، لم يستقل. لم يستسلم لليأس الذي يحاصرنا من كل حدب وصوب. لم يعترف بـ «الهزائم»، رغم أهوال «الربيع العربي» المسروق.
لم يتراجع عن أيّ من المواقف الجذريّة التي طبعت جيله المبارك في الستينيات والسبعينيات، والتي جعلت مسرحه المقاوم يلفت نظر العدو فيتناول على إذاعته مسرحيّة «وايزمانو بن غوري وشركاه» (1968)، بُعَيْد الغارة الاسرائيلية على مطار بيروت. طوال هذه السنوات، لم يستسلم للردّة، ولم يفقد بوصلة فلسطين، ولم يغيّر خطّه السياسي، اليساري، الوطني، المعادي لإسرائيل، في زمن الخيانات والتحولات «الرشيدة» و… اليساريين التائبين. بقي المثقف الشامل الذي يحيط وعيه بالمرحلة، ويحسن قراءة الصراعات الاقليميّة، ويدعم بلا التباس خط المقاومة، في زمن تساقط مثقفي اليسار في مكبّ «الليبرالية»، وتواطئهم الواعي، أو غير الواعي، مع المصالح الاستعماريّة ومع إسرائيل، بإسم «الانفتاح والتقدّم والعلمانيّة والحريّة»!
رحل المسرحي العربي الكبير في رقاده، ليتركنا وحدنا، ونفتقد بغيابه سنداً عاطفيّاً، ومرجعاً ثقافيّاً، وحصناً أخلاقيّاً. لم يكن يعاني من المرض، ولم تظهر عليه ملامح الشيخوخة. هو الذي عاش طويلاً بين الشباب ومعهم، من خلال تجربته التعليمية في الجامعة اليسوعيّة، وادارته لـ «مسرح مونو»… لا شيء كان يوحي بقرب انسدال الستارة على الفصل الأخير: لا مظهره الأنيق الشببلك، ولا تلك الطاقة الدائمة والحيويّة التي ينضح بها. لا ملامح الوجه، ولا حركة الجسد. لا الحضور الذهني، ولا الديناميكية التي ميّزت حضوره الدؤوب على كل الجبهات الثقافية والسياسية. كان يطاردك على «واتساب» بروابط المقالات العربية والأجنبية ومقاطع الفيديو التي تفضح الرجعيّة، والسياسات الغربية الداعمة لاسرائيل وخراب العالم العربي. كان يستحوذ عليك بقامته الممتشقة، يلفتك بمظهره البسيط والأنيق، البورجوازي المنتمي إلى الشعب، الفرنكوفوني العروبي. يأخذك بصوته المسرحي الجهوري، ويغمرك بلغته ومصطلحاته وصوره ومفرداته، ويتلقفك بخطابه السياسي المتماسك، الراهن، في كل مناسبة. وبطريقته المباشرة، الفجّة، في خوض النقاشات، وأخذ المواقف الحاسمة… لا شيء بتاتاً كان يشير إلى الشيخوخة، ويوحي بها عند جلال في الثالثة والثمانين. لا تعب، ولا يأس، ولا إحباط، ولا مرض مزمناً. لم يظهر عليه التقدّم في العمر، ولم يغزُ مفرقه الشيب. كان يردد في كل الحوارات والأحاديث، حين يسأل عن سرّ شبابه الدائم وقد تجاوز الثمانين، أنّه يعتني بصحّته، لأنه يريد أن يعيش كي يشهد انهيار «إسرائيل» ! ابن خياط الأكابر الذي كان يُحضر معه كتب ماركس وانغلز، من جولاته الباريسية، كي يقرأ على أولاده في الأماسي، بقي شاباً بشكل مدهش، منخرطاً في معارك شعبه ومجتمعه، وأفكار زمانه. بقي هذا الشاب المتحمّس، كما كان في الستينيّات، يوم شارك في صنع «العصر الذهبي» للمسرح اللبناني.
كأن الزمن لم يتمكّن من جلال خوري، فبقي هو هو، بالصفاء والحماسة اللذين طبعا خطواته الأولى في الستينيات. المعمار الشيوعي المعروف أنطون تابت، صديق والده، أهداه الأعمال الكاملة لبرتولد بريخت… فصار بريختيّاً، منذ مسرحيّته الثانية «رؤى سيمون ماشار» (1964). بل إن جلال خوري بقي لعقود مرجعاً لـ «المسرح البريختي» في العالم العربي، وسافر إلى الـ «برلينر أنسامبل» والتقى رفيقة درب المعلّم الألماني الراحل هيلينا فايغل… جلال خوري هو أحد مؤسسي المسرح السياسي العربي، الواقعي، الملتزم، الهادف إلى خلق صدمة الوعي لدى الجمهور الشعبي، و«تحريضه» على واقعه وقضاياه وصراعاته. من الغريب أن بداية جلال كانت مع مسرح العبث إذ قدّم مسرحية بيكيت «في انتظار غودو» مع الثنائي شريف الخزندار وكريستيان غازي (سنوات قبل أن يعيد تقديمها شكيب خوري بترجمة عصام محفوظ). ثم غاص في الفقه البريختي للمسرح الذي بات، بعد النكسة، سمة المرحلة. هذه الاتجاه الذي أخذه «محترف بيروت للمسرح» مع روجيه عسّاف ونضال الأشقر إلى مناح أقل «حرْفيّة»، وأكثر سرديّة واحتفاليّة… كما تأثرت به تجارب عديدة أخرى في العالم العربي، من سعدالله ونّوس في سوريا إلى عبد الرحمن ولد كاكي في الجزائر.
مسرحيّات جلال خوري في الستينيات والسبعينيات شكلت محطّات أساسيّة في التاريخ الثقافي والسياسي لبيروت. بعضها عرف نجاحاً شعبيّاً باهراً، وامتدت عروضه أشهراً، الأمر الذي لم يكن مألوفاً آنذاك. نتحدث تحديداً عن «جحا في القرى الأماميّة» (1971، الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، شكّلت انطلاقة الممثل الشعبي نبيه أبو الحسن الذي طوّر شخصيّة «جحا» لاحقاً إلى «أخوت شاناي»)، و«الرفيق سجعان» (1974، الوعي الطبقي للصراعات الاجتماعيّة). بين أعمال تلك المرحلة، لا بدّ من الإشارة إلى مسرحيّة أساسيّة من تأليف برتولد بريخت، هي «صعود أرتورو أوّي» مع روجيه عسّاف (1966). المسرحيّة تتناول صعود هتلر وتفكك آليات الاستبداد النازي. وقد عاد فقدّمها خلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة، في ظل هيمنة بشير الجميّل على الغيتو الانعزالي. صار عنوانها «زلمك يا ريّس» (1981)، وقدّمت في المناطق التي تسيطر عليها ميليشيات بشير الجميّل. كان من الواضح أن أرتورو أوّي الذي تألّق أنطوان كرباج في تجسيده، ليس ـــ في رؤية جلال خوري ـــ إلا «زعيم الانعزاليين» آنذاك، لكنّ أحداً لم يلاحظ، بل إن بشير كتب نفسه تقديماً في برنامج العرض!
بعد مسرحيّة «رزق الله يا بيروت» (1997)، أعلن جلال خوري القطيعة مع المسرح الغربي، وراح يبحث عن قوالب ولغات وموضوعات مستوحاة من الشرق، ومحلّقة في عوالم روحانيّة: «هنديّة راهبة العشق» (1999)، «الطريق إلى قانا» (2006)، «رحلة محتار إلى شري نغار» (2010)… لكن أعمال المرحلة الأخيرة،
لم تحقق الإجماع القديم، ولا الإقبال المطلوب. تجربته الأخيرة «شكسبير إن حكى» مع الثنائي رفعت طربيه وميراي معلوف استعادت ألق المسرح، ومتعة الفرجة، وقراءة جلال النقديّة، الجدليّة، للتاريخ… وهي تبدو اليوم بمثابة وصيّة: عودوا إلى المسرح، تلك الفرجة الزائلة والخالدة في آن، القادرة على التقاط جوهر الانسانيّة وحركة التاريخ.
لفت جلال خوري في السنوات الأخيرة بحضوره، شاهداً نقديّاً على العصر الذهبي لبيروت، ومناضلاً من أجل مستقبل أفضل لمجتمعه ومنطقته العربية. كان حدّاً بمواقفه السياسية، خصوصاً في نقد النظام الطائفي، وملف الصراع مع إسرائيل والتطبيع الثقافي. «هناك عدو عجِز عن ترويضنا بالسلاح، يحاول أن يفعل بالتطبيع. لا يجوز أن نعطيه الذرائع تحت شعار حرية التعبير (...). الحرية توأم المسؤولية، إذا فصلنا الأولى عن الثانية، فقدت معناها ورسالتها». تلك كانت مساهمته في «الأخبار» (26 سبتمبر) ضمن الملف الخاص بقضية زياد دويري. وكانت آخر إطلالة عامة لجلال خوري مساء 24 أكتوبر في لقاء عن مخاطر التطبيع، نظمتها «ندوة العمل الوطني» في بيروت. أكثر منه مداخلة، قدم عرضاً أدائياً (برفورمانس). كان عرضه الأخير. ختمه بمقولة تختصر المرحلة: «الحرية هي فهم الضرورة». هذا المثقف الملتزم بقي ماركسياً إلى النهاية. ومثل بطله «جحا»، بقي جلال واقفاً في الخطوط الأماميّة للجبهة، حتّى الرمق الأخير. «الرفيق سجعان» وداعاً!