أخيراً، بعد طول انتظار، جاء اقتراح قانون انشاء شركة نفط وطنية لينقذ ما يمكن انقاذه، بعد سلسلة تعثرات وانحرافات اصابت مسيرة البترول والغاز خلال السنوات الطويلة الماضية. هذه التعثرات والانحرافات بلغت أوجها في النتيجة المخيبة لاستدراج عروض الاستكشاف والانتاج، التي تم اعلانها رسميا في 12 تشرين الاول الماضي. ولن تنفع في طمس تعاسة هذه النتيجة، الجهود التي تبذلها وزارة الطاقة والمياه للتمويه وكسب الوقت تحت ستار التفاوض على «العروض» المقدمة.
ففي ظل الأزمة السياسية التي ادت اليها استقالة الرئيس سعد الحريري من منصبه، بادرت الوزارة المذكورة في 10 تشرين الثاني الى اصدار بيان جاء فيه: «نظراً لخطورة التبعات التي تنجم عن عدم المضي قدماً في مسار الآلية المقررة لاستكشاف الثروة النفطية، وحفاظاً على حقوق الأجيال ومصداقية وسيادة الدولة، وبناء على الصلاحيات المنصوص عليها في المادة 10 من المرسوم رقم 43/2017، وقع وزير الطاقة والمياه المهندس سيزار أبي خليل اليوم دعوة الشركات المشاركة في دورة التراخيص الاولى، والتي قدمت عروضها في تاريخ 12 تشرين الاول 2017، للتفاوض على العروض التقنية».
اذا كان بديهياً ان يتمنى كل لبناني وضع حد لهدر السنين وضياع المصداقية في اطلاق عمليات استكشاف البترول والغاز بحراً وبراً، فالبديهي ايضا ان يتم كل ذلك تحت سقف الدستور والقانون، وضمن الشروط التي تمليها المصلحة العامة.
بداية، هناك علامة استفهام كبيرة حول قرار التفاوض على العروض التقنية، وهو ان هذه «العروض» اقتصرت في الواقع، وفق ما تم إعلانه رسمياً مساء 12 تشرين الاول، اي تاريخ إقفال مهلة تقديم العطاءات، على عرض واحد لكل من الرقعتين رقم 4 و9، قدمته مجموعة مكونة من شركة توتال الفرنسية وشركة ايني (ENI) الإيطالية، إضافة الى الشركة الروسية المستقلة نوفاتيك (Novatek)، التي تملك توتال 16,3% من رأسمالها. في حين أن المادة 9 من دفتر الشروط توصي في الفقرة 8 بعدم منح أي حقوق بترولية في بعض الحالات، «خاصة في حال كان عدد الطلبات المقدمة لرقعة معينة أقل من طلبين»، وذلك طبعاً بسبب انعدام الشروط الأدنى اللازمة للمنافسة ولتأمين المصلحة العامة.
ولكن، حتى إذا سلمنا جدلاً بأن من حق وزارة الطاقة عدم التقيد بأحكام هذه المادة من دفتر الشروط، يبقى أن النتيجة المعلنة لاستدراج العروض تثير عدداً من التساؤلات والهواجس التي يمكن إيجازها في النقاط الجوهرية التالية:

اهتمام مبدئي أم أنه عرض ملزم؟


«مستشارون»
مجهولو الهوية قاموا عملياً بصياغة القسم الأكبر من عشرات المراسيم التطبيقية
ــــ أولاً، هل ما تقدم به ائتلاف الشركات الثلاث المذكورة هو مجرد اهتمام مبدئي أم أنه عرض ملزم؟ وإن كان عرضاً بكل معنى الكلمة، فما هي شروطه، خاصة لجهة برنامج العمل ودور الدولة وحصتها وتحديد عناصر «المزايدة»، التي تركت المادة 23 من المرسوم 43/2017 للشركات حرية تحديدها تحت الشرط المذهل ان «تكون حصة الشركة المتعاقدة اكبر من حصة الدولة»! إن كان الامر كذلك، فهذا يعني قبول لبنان بشروط مالية هي الأسوأ في العالم، اذ ان معدل حصة الدولة في عشرات البلدان التي تمارس نظام تقاسم الانتاج الحقيقي تتراوح بين 65 و85% من الارباح. لا بل إن حصة لبنان ستكون ادنى بكثير مما كانت تحصل عليه الدول المنتجة في ظل نظام الامتيازات القديمة في العصر الماضي، اي اتاوة 12,5% من قيمة البترول او الغاز المنتج، تضاف اليها ضريبة 50% على الارباح. هذا في حين ان حصة لبنان لن تتجاوز في احسن الحالات 47% من أرباح الشركات العاملة (كما تدل على ذلك ارقام الجدول الذي تضمنته المحاضرة التي قدمها الكاتب في 12 تشرين الاول الماضي في نقابة المهندسين في بيروت، ونشرت في «الاخبار» تحت عنوان «الشياطين تكمن في المراسيم البترولية: عودة مقنَّعة لنظام الامتيازات القديمة»/ العدد ٣٢٤٥ الثلاثاء ٨ آب ٢٠١٧).

أين الشركات المشبوهة؟

ــــ ثانياً، ما هي اسباب الاختفاء الكامل لأسماء الشركات الوهمية وغيرها من الشركات المشبوهة من بين الشركات الأعضاء في المجموعة التي قدمت العرض المشار اليه رسمياً؟ فقد سبق لهيئة ادارة قطاع البترول ان اعلنت رسمياً عام 2013، ثم في مطلع هذا العام، عن تأهيل هذه الشركات المسبق للحصول على حقوق استكشاف وانتاج البترول والغاز في المناطق البحرية، لا سيما ان هذه الشركات، بما فيها شركات كرتونية «لبنانية» سجلت على عجل بحفنة من الدولارات في هونغ كونغ وبيروت، لم تبخل منذ سنوات، لا بالمال ولا بالعلاقات العامة والخاصة، لتبرير وجودها. فهل ان اختفاءها الكامل والمفاجئ من الصورة يعود لرفض الشركات الكبرى الزواج القسري معها، في اطار ما سماه دفتر الشروط والمرسوم 43/2017 «شراكة تجارية غير مندمجة» مكونة من شركة مشغلة بحصة 35% على الأقل ومن شركتين «غير مشغلتين» على الأقل بحصة لا تقل عن 10% لكل منهما؟
هذا التفسير لم يعد مستبعداً بعد ان افتضح امر هذه الشركات المارقة ونشرت اسماء اصحابها في الصحف اللبنانية، واصبح القاصي والداني يعلم ان الغاية منها تكمن في محاولة تغطية بعض المصالح الخاصة وتسهيل المحاصصة على الطريقة اللبنانية. ولكن حتى اذا كان هذا التفسير صحيحاً، فهذا لا يمنع على الاطلاق سعي البعض للوصول الى المآرب نفسها بوسائل اخرى، في طليعتها التسهيلات والاعفاءات غير المسبوقة التي نصّ عليها القانون الجديد الخاص بالاحكام الضريبية المتعلقة بالانشطة البترولية.
أبرز هذه التسهيلات والاعفاءات السماح للشركات المؤهلة صاحبة الحقوق البترولية بانشاء شركات اخرى «مرتبطة بها» واعفاء كل هذه الشركات، بما فيها الشركات المرتبطة، من احكام المادتين 78 و144 من قانون التجارة الخاصة بهوية وجنسية اصحاب الشركات البترولية العاملة، ومكان مركزها الرئيسي. ومن اللافت ان الجهات المختصة لم تعلن عن أي سبب يبرر مثل هذه التسهيلات والاعفاءات غير المسبوقة، اللهم الا التأكيد على انها «تحفز الاستثمارات في القطاع النفطي»!

من يتخذ القرارات؟

ــــ ثالثاً، سؤال جوهري آخر ما زال مطروحاً حول هوية الأشخاص او الجهات المسؤولة عن تقييم العرض المقدم من ائتلاف الشركات الثلاث المذكورة، خاصة ان نتيجة هذا التقييم تشكل منطلقاً للتوصيات المقدمة لوزير الطاقة والمياه ولحيثيات التوصيات التي يرفعها الوزير بدوره لمجلس الوزراء بشأن توقيع اتفاقيات مع الشركات الأجنبية. والسؤال عينه كان، وما زال، مطروحاً حول مؤهلات الذين أخذوا على عاتقهم مسؤولية اختيار وتأهيل الشركات المؤهلة مسبقاً للحصول على حقوق استكشاف وانتاج البترول والغاز في المناطق البحرية. الجواب بالطبع، وفي الظاهر، هو هيئة ادارة قطاع البترول، التي يديرها مجلس ادارة يضم ستة اعضاء أشرف على اختيارهم وتعيينهم، ولا يزال يشرف مباشرة على عملهم، وزير الطاقة دون غيره. أما واقع الحال فهو أمر آخر نظراً الى ان معظم الأعضاء الستة المذكورين لا يملكون لا الكفاءات الاكاديمية ولا التجربة اللازمة، ولا المؤهلات الاخرى للقيام بهذه المهام وتحمل مسؤوليات من هذا النوع وبمثل هذا الحجم، مع كامل التقدير لمؤهلاتهم الاخرى. وهذا ما يفسر لجوء الهيئة المذكورة للتعاقد مع «مستشارين»» لا يعرف اللبنانيون وجوههم ولا اسماءهم ولا لحساب من يعملون. «مستشارون» مجهولو الهوية قاموا عملياً بصياغة القسم الاكبر من عشرات المراسيم التطبيقية لقانون 132/2010، بكل ما فيها من احكام قانونية ومالية وضريبية واقتصادية وبيئية، بالاضافة طبعاً وخاصة لطرد الدولة برمتها من الأنشطة البترولية وفق المادة 5 من المرسوم 43/2017، لتحل محلها شركات خاصة تضم شركات مارقة ملاحقة قضائياً في بلدان مجاورة، الى جانب شركات وهمية برزت فجأة من العدم لتنعم عليها هيئة البترول، ومن دون أي تردد او تحفظ، بـ «التأهيل المسبق» للحصول على حقوق بترولية، بما فيها حقوق الملكية على الثروة النفطية التي يتم اكتشافها!

تشير الدلائل إلى أن الشركات الكبرى غير مستعدة للمجازفة بمصداقيتها والتعرض لعقوبات دولية


مستشارون مقنّعون

هكذا، وبتعبير آخر، يتم التنصل من المسؤولية اذ يختبئ الوزير وراء هيئة ادارة قطاع البترول، التي تختبئ بدورها وراء «خبراء» او «مستشارين» مقنعين يتم التعاقد معهم بالتراضي من دون الاعلان عن اسمائهم او عن سيرهم الذاتية. كما تعدل نصوص بعض القوانين المرعية الإجراء بهدف السماح للشركات صاحبة حقوق الاستكشاف والانتاج بتأسيس شركات أخرى «مرتبطة بها» واعفائها من الاحكام الخاصة والكفيلة بتحديد هوية وجنسية ومكان إقامة أصحابها. أضف الى ذلك ان كل مكونات حصة الدولة من استثمار البترول والغاز (رسوم المساحة الرمزية ووتيرة استرداد التكاليف والاتاوة والحد الأدنى من الارباح والضريبة على ارباح الشركات) تمتاز كلها من دون استثناء بكونها دون مستوى المعايير المعمول بها في سائر بلدان العالم. ولا يقل سوءاً عن هذا كله عناصر المزايدة الفريدة من نوعها التي ترك أمرها مفتوحاً لـ«التفاوض» بين بعض موظفي وزارة الطاقة والشركات لتحديد تطور حصة الدولة وفق تطور «عامل الدخل» (R-Factor)، الذي يعكس تبدل نسبة الدخل الى النفقات... هذا النوع من المزايدة، الذي لا مثيل له في البلدان الاخرى، يفتح الباب للرشوة والفساد، ويعطي الشركات العاملة إمكانية التحكم بحصة الدولة. هذا ناهيك عن المزيد من التعتيم المطبق الذي تمتاز به مسيرة البترول والغاز عندنا، والذي قال عنه النائب محمد قباني، رئيس لجنة الاشغال والنقل والطاقة في المجلس النيابي، إنه «امر معيب ومخجل!».
اذا كان هدف هذه التصرفات والاغراءات غير الطبيعية هو اقناع الشركات الكبرى بمشاركة شركات مارقة «غير مشغلة»، والتوقيع بأسرع ما يمكن على اتفاقيات استكشاف وانتاج تمتد على ما يقارب الاربعين عاماً، فالواقع هو ان نتيجة استدراج العروض قد جاءت بعكس ذلك تماماً. وبانتظار الاعلان عن طبيعة ومضمون ما قدمه ائتلاف توتال وايني ونوفاتيك، فالدلائل تشير الى ان الشركات العالمية الكبرى غير مستعدة للمجازفة بمصداقيتها وبالتعرض للعقوبات الدولية، سواء كان ذلك بالتواطؤ مع «شركات» وهمية ومارقة، أو بقبول العمل على اساس شروط استثمار لا مثيل لها في اي من بلدان العالم الاكثر فساداً.

الشركة الوطنية هي الحل

هذا الواقع لا يترك مجالاً للشك بأن اسلم واقصر طريق للخروج من هذا المأزق، بالنسبة للبنان وللشركات الكبرى المعنية على حد سواء، هو الاسراع في إقرار مشروع قانون انشاء شركة نفط وطنية. شركة تساهم فعلاً في عمليات الاستكشاف والانتاج في اطار عقود تقاسم الانتاج مع واحدة او اكثر من الشركات العالمية، كما نص على ذلك اصلا القانون البترولي 132/2010. هذا بكل بساطة ما تمليه مصلحة اللبنانيين، وهذا ما يمليه القانون والحس السليم. ولو حصل ذلك منذ حوالى عشرة اعوام لكنّا وفرنا على بلدنا الكثير الكثير من ضياع المصداقية وهدر الوقت وعشرات الملايين من الدولارات، فضلاً عن الخسائر الباهظة التي نتكبدها جراء التأخر عما سبقتنا اليه اسرائيل وقبرص ومصر، من دون ان ننسى غزة التي اكتشفت الغاز في مياهها الاقليمية مند عام 2000، قبل ان تمتد يد الغدر الاسرائيلية لتدمر منشآتها.