باريس | تشهد التحقيقات القضائية في فضيحة شركة «لافارج»، عملاق الصناعات الاسمنتية الفرنسية، تطورات متسارعة منذ مطلع الأسبوع الماضي. فبعد اعتقال ثلاثة من المديرين التنفيذيين للشركة، يوم الأربعاء الماضي، أُعلن أمس عن توجيه استدعاء قضائي جديد لرئيس الشركة السابق، برينو لافون، للمثول أمام القضاء، صباح الأربعاء المقبل.
تسريبات الصحف الفرنسية، التي تداولت خبر استدعاء برينو لافون من قبل قاضي التحقيق، أشارت إلى أن من الأرجح أن يودع بدوره رهن السجن الاحتياطي، على ضوء مستجدات التحقيق. وقد كان لافتاً أن جلسة الاستنطاق الجديدة، التي سجن على أثرها المديرون التنفيذيون الثلاثة، الأسبوع الماضي، أسفرت عن توجيه تهم جديدة لـ«لافارج»، إذ لم يعد الأمر يقتصر على شبهة تمويل الإرهاب، بل يواجه مسؤولو الشركة تهماً أخرى؛ منها شراء نفط مهرب من قبل «داعش»، وتعريض حياة عمالها السوريين للخطر، بإرغامهم على البقاء في المنطقة التي سيطر عليها المتطرّفون، بينما تمّ إجلاء العمال الأجانب.
وكانت الشرطة القضائية قد داهمت مقر الشركة في باريس، يوم 14 تشرين الثاني، للقيام بعمليات تفتيش مرتبطة بتهم تمويل الإرهاب الموجهة للشركة، على خلفية الاشتباه في دفعها أموالاً غير شرعية لـ«داعش» من أجل ضمان عدم تعرّض المتطرفين لمصنعها الواقع في بلدة قرب الرقة.
وعلى ضوء الوثائق التي تم احتجازها خلال تلك المداهمات، أمر قاضي التحقيق رينو فان رامبيك، يوم الأربعاء، بإيداع ثلاثة من كوادر الشركة البارزين رهن السجن الاحتياطي، وهم: المديران اللذان تبادلا أدوار تسيير مصنع «لافارج» في الرقة، برينو بيشو وفريدريك جوليبوا، ومدير الشؤون الأمنية للشركة، جان كلود فايار. ووفقاً لمصادر مقربة من التحقيق، فإن الوثائق المذكورة بيّنت أن «لافارج» كانت تدفع ما بين 80 ألف دولار ومئة ألف دولار شهرياً لضمان عدم التعرض لمصنعها في الرقة. ويفسر ذلك ترجيح اعتقال رئيس الشركة برينو لافون، عند مثوله أمام قاضي التحقيق، في منتصف الأسبوع الجاري، علماً بأن لافون اضطر إلى التنحي عن رئاسة «لافارج»، إثر تفجير هذه الفضيحة من قبل جريدة «لو موند». ورغم فداحة التهم الموجهة إليه، إلا أنه تقاضى مقابل تنحّيه تعويضاً ضخماً قُدّر بـ 5,9 ملايين يورو! وقد سبق للقضاء أن استجوبه في شباط الماضي، عند بدء التحقيقات في هذه الفضيحة، برفقة كوادر آخرين في إدارة الشركة، لكن بوصفهم «شهوداً» وليس كمتهمين.

يرجَّح استدعاء لوران فابيوس مجدداً للتحقيق معه في هذه القضية

ويشتبه المحقّقون بأن «لافارج» دفعت لـ«جبهة النصرة» ثم لـ«داعش»، عبر وسطاء محليين، أموالاً غير شرعية، في شكل دفعات شهرية دامت قرابة عام ونصف عام، من مطلع عام 2013 إلى أن عطل «داعش» المصنع في أيلول 2014. أموال قدّرتها الصحف الفرنسية، نقلاً عن مصادر مقربة من المحققين، بقرابة نصف مليون يورو.
يذكر أن الدعوى القضائية، التي حركتها جمعية Sherpa غير الحكومية، التي تُعنى بمحاربة الفساد، كانت قد أطاحت، خلال الصيف الماضي الرجل الثاني في إدارة «لافارج»، كريستيان هيرو، إثر اضطراره إلى الإقرار بأن أموالاً غير شرعية دُفعت بالفعل لـ«جبهة النصرة» ثم لـ«داعش»، لضمان عدم التعرّض لمصنع الاسمنت التابع للشركة، قرب الرقة.
وفي منتصف شهر تشرين الأول الماضي، عمدت جمعية Sherpa الى تزويد المحققين بعدد من الوثائق السرية المحرجة، التي جعلت أصابع الاتهام في هذه الفضيحة تطال أيضاً مسؤولين كباراً في وزارة الخارجية الفرنسية. وقد دفع ذلك القضاء إلى استدعاء وزير الخارجية الأسبق لوران فابيوس، الذي يشغل حالياً منصب رئيس «المجلس الدستوري» (المعادل الفرنسي للمحكمة العليا) إلى جانب سفيرين فرنسيين سابقين في سوريا، هما إيريك شوفالييه وفرانك جيليه، لسماع أقوالهم.
ووفقاً لتسريبات الصحافة الفرنسية، فإن تلك الوثائق التي أدت الى استجواب الوزير فابيوس والسفيرين المذكورين، عبارة عن مراسلات ومحاضر اجتماعات ورد فيها على لسان نائب رئيس «لافارج»، كريستيان هيرو، أنه كان يجتمع شخصياً، كل ستة أشهر، بالسفير الفرنسي المكلّف بالملف السوري، للتشاور معه بخصوص مستقبل مصنع الشركة في الرقة. وأكد هيرو في تلك الوثائق أنه «في كل مرة، كان السفير يؤكد لي أن تعليمات وزارة الخارجية تقضي بضرورة إبقاء مصنع لافارج في الرقة مفتوحاً، لأنه يعدّ أكبر استثمار لنا في سوريا، مع التوصية باتخاذ الإجراءات اللازمة لتأمين عمل المصنع، لأنه في النهاية يحمل علم الدولة الفرنسية».
جعلت هذه المعلومات المحققين الفرنسيين يشتبهون بأن الأموال التي تم دفعها سراً لـ«جبهة النصرة» ثم لـ«داعش»، بهدف تأمين عمل مصنع «لافارج» في الرقة تمت بعلم وموافقة الوزير لوران فابيوس، بالتنسيق مع السفيرين المكلّفين بالملف السوري، وهما ايريك شوفالييه، الذي بقي مكلفاً بإدارة الملف السوري انطلاقاً من باريس منذ إغلاق السفارة الفرنسية في سوريا، في آذار 2012، إلى أن خلفه في هذا المنصب السفير فرانك جيليه، في صيف 2014.
لكن مصادر في وزارة الخارجية الفرنسية سربت لصحيفة «لو موند»، في حينه، أن الوزارة سلمت للمحققين وثائق تثبت أنها لم تكن على علم بدفع أي أموال لتنظيمات إرهابية من أجل تأمين عمل مصنع «لافارج» في الرقة. ووفقاً لما نشرته «لو موند»، فإن من بين تلك الوثائق محضر اجتماع عُقد في السفارة الفرنسية في عمان مع فريدريك جوليبوا، مدير مصنع «لافارج» في الرقة (أحد المديرين الثلاثة الذين أودعوا السجن الاحتياطي في منتصف الأسبوع الماضي)، لمساءلته عن مدى صحة التسريبات الصحافية المتعلقة بدفع أموال سرية لتنظيمات مسلّحة بهدف تأمين مصنع الرقة. وقد نفى جوليبوا ذلك، بشكل قطعي خلال ذلك الاجتماع، ما جعل وزارة الخارجية تسمح بالاستمرار في إبقاء المصنع مفتوحاً.
لكن جمعية Sherpa ردت على تلك التسريبات، قائلة إن محاولات وزارة الخارجية استعمال محضر ذلك الاجتماع، الذي عقد في عمان لتبرئة ذمتها من تهم تمويل الإرهاب تفتقر إلى الصدقية، لأن الاجتماع المذكور عُقد في وقت لاحق لإغلاق مصنع «لافارج» في الرقة، أواخر أيلول 2014. وبالتالي «لا يمكن استعماله كحجة لتبرير توصية الوزارة بإبقاء المصنع مفتوحاً طوال أكثر من عامين، بعد سيطرة جبهة النصرة ثم داعش على المنطقة التي يقع فيها، قرب الرقة».
وبحسب Sherpa، فإن مساءلة مدير مصنع «لافارج»، التي دار الحديث عنها في ذلك المحضر، اقتصرت على ما أثير، أواخر عام 2014، بخصوص دفع أموال لمقاتلين أكراد منضوين في صفوف «قوات سوريا الديموقراطية»، بهدف حماية المصنع من أي هجومات محتملة لـ«المتطرفين الجهاديين». أما الأموال التي دفعت لـ«داعش»، فلم يدر الحديث عنها في أي اجتماع أو تحقيقات وزارية قبل تفجير فضيحة «لافارج» في وسائل الإعلام، مطلع عام 2017.
يذكر أن توجيه تهمة التواطؤ في تمويل الإرهاب للوران فابيوس في هذه القضية، أعاد الى الأذهان الجدل الذي أثاره الوزير الفرنسي، حين اعترض على تصنيف الولايات المتحدة الأميركية لـ«جبهة النصرة» كتنظيم إرهابي، عام 2014، حيث تأسف فابيوس لذلك القرار، مطلقاً جملته الشهيرة في اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل: «إن النصرة تنجز شغلاً جيداً في سوريا»!
ويرجح المتتبعون للتحقيقات المتسارعة في هذه الفضيحة أن يتم استدعاء لوران فابيوس مجدداً، للتحقيق معه على ضوء ما سيكشفه رئيس «لافارج» السابق، برينو لافون، عند مثوله أمام قاضي التحقيق، يوم الأربعاء المقبل.




رئيس «لافارج هولسيم»: ارتُكبَت أخطاء غير مقبولة


رأى رئيس شركة الإسمنت السويسرية الفرنسية «لافارج هولسيم»، بيت هيس، في مقابلة نشرت أول من أمس، أنه كان على الشركة وقف نشاطها في سوريا قبل وقت طويل من قيامها بذلك.
وقال هيس لصحيفة «لو فيغارو» الفرنسية إن المجموعة الصناعية تمرّ «في مرحلة صعبة» تؤثر في «سمعة الشركة». وأوضح أن «أخطاءً غير مقبولة ارتُكبَت؛ تدينها الشركة وتأسف لها». وقال هيس الذي تولى رئاسة الشركة في أيار 2016 إن لديه «ملء الثقة» بالنظام القضائي الفرنسي، وإنه «إذا كان بإمكاننا المساعدة، فلن نتوانى عن ذلك».
(أ ف ب)