أتى اجتماع مجموعة الدعم الدولية للبنان في العاصمة الفرنسية، امس، جهداً مكمّلاً لباريس مذ تولت اخراج رئيس الحكومة «المستقيل» سعد الحريري من الرياض اليها، والمساهمة ــــ بدعم اوروبي كامل ــــ في انهاء الازمة الناجمة عن تدهور علاقة السعودية به اولاً، ثم بلبنان. بدا من الصعب تجاهل هذه الازمة بعدما امتدت اصابعها، او تكاد، للعبث بالاستقرار الداخلي في هذا البلد.
بيد ان الشق الآخر من الازمة، المنفصل تماماً عن سبل تصويب العلاقات اللبنانية ــ السعودية، لم يكتفِ باعادة الاعتبار الى تسوية 2016 وترسيخها فحسب. بل افصح عن التوازن السياسي الجديد في البلاد، القائم على مثلث رئيسي الجمهورية والحكومة وثنائية حركة أمل وحزب الله الذي أدار ازمة الايام الـ18 ما بين الرياض وبيروت في مرحلة اولى، ثم في الايام الـ17 التالية وصولاً الى اعلان حكومة الحريري في 5 كانون الاول بيان النأي النفس. في كل هذا التطور بانت الاستقالة تفصيلاً ثانوياً، فلم تحتج سوى الى السطر الاخير في بيان مجلس الوزراء، أُدمِج فيه في اللحظات الاخيرة، ولم يكن في اصل مسودته.
لم يكن بيان النأي بالنفس ــــ وإن صيغ في الداخل ــــ سوى ثمرة مجموعة افكار تقاطعت بين ما شجعت عليه باريس ومن خلفها الاتحاد الاوروبي وبين الافرقاء اللبنانيين المعنيين مباشرة به، هو المثلث نفسه. بذلك أتى البيان كي يرسم، حتى الوصول الى الانتخابات النيابية في الربيع المقبل، قواعد الاشهر الخمسة المقبلة في الحكم:
اولاها، استمرار الحريري على رأس الحكومة الحالية الى موعد انتخابات 6 ايار 2018، وربط وجوده في هذا المنصب تالياً بثبات الاستقرار، بعدما اظهرت الازمة الاخيرة ان اقصاءه توخى افتعال تماس سنّي ــــ شيعي. ما عنى في المقابل ــــ وهو ما رمى اليه منذ اللحظة الاولى موقف رئيس الجمهورية ــــ ان اي رئيس آخر للحكومة سيكون جزءاً لا يتجزأ من التماس السنّي ــــ الشيعي. هو الموقف نفسه للشريكين الآخرين في المثلث: تيار المستقبل وثنائية حركة أمل ـــــ حزب الله. لم يشأ احد الخوض في استقالة ملتبسة، واصروا على عودة «رئيس حكومتنا» الى البلاد بعدما تيقنوا من ان توجيه الانتباه الى احتجازه، لا الى استقالته، هو الذي يهدم جدار التماس السنّي ــــ الشيعي قبل رفعه طبقاً لما ارادته النبرة الحادة وغير المسبوقة للاستقالة.

السعودية والغرب
تقاطعا على أن حزب الله
«مزعج» لكليهما

ثانيها، عدم اكتفاء الغرب، الاوروبيين والاميركيين، بتأكيدهم وجود المظلة الامنية الدولية الواسعة على لبنان التي تحول دون السماح لأي طرف اقليمي بالتلاعب بأمنه واستقراره، بل ذهابه الى الاقصى بالاعلان ان الحريري شريكه الرئيسي. ما يشير الى تمسك الغرب ببقائه على رأس الحكومة اللبنانية. احدى ابرز علامات هذا الاصرار، مسارعة فرنسا الى دعوة مجموعة الدعم الدولية للبنان الى الانعقاد على اراضيها، تمهيداً لعقد مؤتمرات دولية متتالية تدعم اقتصاده وأسلاكه العسكرية والامنية. وفي معزل عما افضى اليه المؤتمر من دعم للبنان وتشبّث باستقراره، الا ان سمته الرئيسية هي الاحتفاء بالحريري «المحرّر»، وردّ الاعتبار الى مكانته الدولية بعد اساءة معاملته في الرياض في الايام الـ18. مذ وصفه بأنه الشريك الرئيسي ــــ وكان لما يزل قيد الاحتجاز ــــ اضفى عليه الغرب الحصانة الدولية الضرورية لحمايته الشخصية وموقعه في الحكم. تالياً انهاء كامل لأي محاولة رمى اليها الاحتجاز من خلال اقصائه.
ثالثها، الاخذ في الحسبان تجنّب استفزاز السعودية ومراعاتها بعد جملة معارك سياسية وعسكرية خاسرة في سوريا واليمن، قبل الوصول الى ما حدث في لبنان اخيراً. تقاطع الغرب والسعودية على وجهة نظر واحدة في الهدف المصوَّب اليه، واختلف تفسيرها. التقى الاثنان على ان حزب الله «مزعج». عند الغرب يزعج الدولة اللبنانية من خلالها فائض قوته واحتفاظه بسلاحه، ويزعج اسرائيل في الجنوب للسبب نفسه. عند السعودية يزعجها في اليمن بعد البحرين بعدما ازعج دورها في سوريا. بذلك كان التشدّد في بيان النأي بالنفس كي يتضمن ما لم يقله البيان الوزاري لحكومة الحريري اذ ركز حصراً على الابتعاد عن الصراعات الاقليمية. في الصيغة الجديدة ــــ الى إعادة تبنّي مضمون البيان الوزاري ــــ الابتعاد عن التدخّل في الشؤون الداخلية للدول العربية. سمّى الاميركيون حزب الله ارهابياً بإزاء اسرائيل فأضافت تطمينات النأي بالنفس القرار 1701، وعدّته المملكة ارهابياً كذلك بسبب دوره الاخير في اليمن. اما ما خلص اليه البيان، فضمانات الحزب ان يكون اقل اقلاقاً وازعاجاً. وهو ما قد يحتاج اليه في المرحلة الحالية الى حين انتهاء دوره العسكري في سوريا.
رابعها، رغم المحتوى المحلي لبيان النأي بالنفس، الا ان الاشارات الدولية المتداخلة في سطوره مرة مباشرة واخرى مداورة، بعد كمّ من المواقف المعلنة للاتحاد الاوروبي مجتمعاً وفرادى، افصح عن رسالة مزدوجة الدلالة: ليس لأي طرف لبناني التدخّل في الشؤون الداخلية العربية، الا ان ليس لأي دولة اقليمية التدخّل في الشؤون اللبنانية الداخلية. رسالة غربية كهذه لا تقتصر على السعودية ــــ وان تكن عنتها مباشرة بعد الازمة الاخيرة المفتعلة مع لبنان ــ،، بل تطاول ايران ايضاً: ليس لأي منهما ان تقاتل الاخرى على الاراضي اللبنانية.