«من بعدي الطوفان! هو لسان حال كل رأسمالي وكل دولة رأسمالية»كارل ماركس

عند زيارة وفد الهيئات الاقتصادية للرئيس ميشال عون إبّان أزمة استقالة الرئيس سعد الحريري، دعاهم الى أن يجدوا أسواقاً جديدة لأن «وجع ساعة ولا وجع كل ساعة». بالطبع، أتى هذا الطلب في خضم أزمة سياسية آنية تحمل في طياتها انعكاسات اقتصادية محتملة.

لكنه، في الوقت نفسه يعكس، ولو بشكل جزئي، إحدى أهم المعضلات الأساسية التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني. والأوضح أيضاً، بغض النظر عما قالته الهيئات لرئيس الجمهورية، أن مرحلة انتظار الرأسماليين اللبنانيين لأن يغيّروا ما بأنفسهم قد انتهت. فعلى رغم أنه، منذ 25 سنة، انطلقت الرأسمالية بعد الحرب بزخم وشكل لم يشهدهما لبنان من قبل حتى في أوج زمن الليبرالية الاقتصادية التي سيطرت بعيد الاستقلال وحتى أوائل الستينيات، والتي بُنيت خلالها ايديولوجية «الرأسمالية اللبنانية»، إلا أن الراسماليين الجدد لم يبنوا لا الاقتصاد التنافسي ولا اقتصاد المعرفة الذي نظّروا له في التسعينيات، ولا الاقتصاد المنتج الديناميكي والتصديري. ولم يستطيعوا ان يشكلوا أسساً ثابتة لنمو القطاعات التي تستعمل القوة العلمية والتكنولوجية الكامنة التي تملكها جيوش الخريجين من الجامعات، التي ازداد عددها بشكل كبير في السنوات الـ25 الماضية. بل بالعكس، فقد تراجعت الصناعات التي وصلت قبل الحرب الى حوالى 25% من الاقتصاد، وتراجع القطاع الزراعي كمياً ولم يتطور باتجاهات حديثة، فبقي يواجه الأزمات الدورية من الكساد وتراجع المداخيل ومستوى المعيشة للمزارعين. كما تم تدمير العمالة النظامية، اي التي يخضع العاملون فيها لعقود عمل وأنظمة رعاية اجتماعية وصحية منتظمة، ووصلت العمالة غير النظامية الى اكثر من نصف القوى العاملة. وتراجعت حصة العمال والموظفين من الناتج المحلي من 50% قبل الحرب الى نصف ذلك تقريباً الآن.
كل هذا حصل في ظل نموذج اقتصادي اعتمد على سياسات نقدية ومالية بعد الحرب، أدت الى تزايد الحاجة تدريجياً الى جذب رأسال مال من الخارج للحفاظ على سعر صرف الليرة ولتمويل العجز الخارجي، كما لتمويل عجوزات الخزينة المتنامية، والتي اتجه على إثرها الدين العام اكثر فأكثر الى ان يكون بالدولار الاميركي بعدما تبينت للمصارف مخاطر الاستدانة بالليرة اللبنانية، والتي كانت هي الاساس في فترة 1993 ــــ 1998.
لكن، لماذا أتى الرأسمال الخارجي الى لبنان بهذا الكم الكبير؟ فبين 1993 و2010 تدفق الى لبنان 147 مليار دولار. واذا قارناها مع تدفقات مشروع مارشال بعد الحرب العالمية الثانية التي بلغت 170 مليار دولار بأسعار 2005، فإننا نرى أن هذه التدفقات كانت ضخمة جداً. لقد أتى هذا الكم الهائل من الرأسمال لأن العائد ما بعد الضريبة، وهو المحفز الوحيد لهذا التدفق (الآن في الولايات المتحدة تنظّر ادارة ترامب في ان سبب التأثير الايجابي لخفص الضريبة على الارباح والرأسمال هو انه سيؤدي الى تدفقات رأسمالية من الخارج، مما سيزيد من النمو الاقتصادي الاميركي بحوالى 3.9% في العشر سنوات المقبلة)، تم رفعه في لبنان بسبب خفض الضرائب على الأرباح والراسمال في 1993 (الجنة الضريبية!) كما تم رفع الفوائد على الايداعات في المصارف وعلى السندات الحكومية الى معدلات عالية جداً، والتي كانت الى أجل قريب معفية من الضرائب وتخضع الآن لضريبة متدنية جداً.

ينقسم الاقتصاد
اللبناني الى خارجي «متقدم» وداخلي «متخلف»


بسبب هذه التدفقات الرأسمالية، كان الاقتصاد اللبناني على مفترق طرق آنذاك. فهو كان امام خيارين: إما أن يستعملها وتحويلات المغتربين ويحوّلها الى استثمارات منتجة ترفع من القدرة الانتاجية للاقتصاد وتزيد من الانتاجية؛ واما ان تتحول التدفقات والتحويلات (والهجرة المرافقة لها) الى البقاء في دائرة الريع مؤدية الى ما يمكن ان نسميه الاقتصاد المزدوج، اي الى انقسام الاقتصاد اللبناني الى اقتصاد خارجي «متقدم» واقتصاد داخلي «متخلف». طبعاً الذي حصل هو انزلاق الاقتصاد اللبناني بسرعة هائلة الى الطريق الثانية حيث الاقتصاد الخارجي هو المسيطر. فحسب أحد تقارير البنك الدولي، في الفترة بين 1997 و2009، بلغ استيراد الآلات الصناعية، وهو أحد اهم مؤشرات زيادة القدرة الانتاجية، 0.7% فقطمن الناتج المحلي او 139 مليون دولار سنوياً، بينما بلغ الاستيراد عامة 39% او 9 مليارات دولار سنوياً في الفترة نفسها! هكذا سيطر الاقتصاد الخارجي بسبب عدم استعمال التدفقات التي بلغت 37 الف دولار لكل لبناني بين 1993 و2010 في بناء المقدرة الإنتاجية (مقارنة مع ألمانيا التي حصل كل مواطن فيها على 210 دولارات ضمن مشروع مارشال!). والسيئ أيضاً انه في هذا الاقتصاد المزدوج، ينقسم الاقتصاد اللبناني الى قطاع خارجي، حيث تعمل ثلث القوى العاملة واغلبها ماهرة بأجور مرتفعة وذات عوائد مرتفعة على الراسمال، والى قطاع داخلي استهلاكي ريعي ترتفع فيه اسعار السلع والأصول بسبب القطاع الخارجي، ولكن الاجور وعوائد العمل فيه متدنية بسبب ضعف الانتاجية واستحواذ الراسمال على الحصة الاكبر من القيمة المضافة.
في هذا الاقتصاد المزدوج أيضاً استبدلنا تصدير السلع بتصدير العمالة، وفقدنا فرصة اتباع الطريق الاول، الذي نظّر له، أو لشكل منه، البعض من اعمدة الفكر الليبرالي اللبناني في السابق. فتم تدمير فكرة مزج «العقل اللبناني» و«الرأسمال الخليجي» في بناء اقتصاد متقدم في لبنان. وهذا الامر، وان كان طوباوياً وسطحياً، إلا أنه مختلف عما استمر حصوله فعلاً بعد الحرب من استعمال العقل اللبناني داخل اقتصاديات الخليج لزيادة الانتاجية هناك وتحول العوائد التي يحصل عليها اللبنانيون المهاجرون من العمل والرأسمال الى مجرد تدفقات مالية الى لبنان يذهب الجزء الأكبر منها الى الاستهلاك او شراء العقار او التجميد في الأدوات المالية. هناك فرق كبير بين الامرين نرى نتائجه اليوم بوضوح في لبنان.
وهنا لا بد من التساؤل: ألم يكن الأجدر بسياسات إعادة الاعمار بعد عام 1992 ان تكون قد عملت، على الاقل، على هذا «المزج» الذي يتوافق مع المنطق الرأسمالي البسيط وحتى مع سطحية الرأسماليين اللبنانيين، بدلاً من ان اقامتها لمشاريع لتعويم نظام الطائف التوزيعي واتباع سياسات لزيادة ارباح ورساميل المصارف وزيادة حصص الرأسمال التجاري عبر الاستيراد والرأسمال الريعي عبر رفع اسعار الاصول الجامدة؟ وكل هذا في مركنتيلية فاضحة بعيدة كل البعد عن الف باء الراسمالية.
علينا دفع اقتراح رئيس الجمهورية اكثر الى حدود طرح سؤال ما العمل؟ وكيف نخرج من هذه الدائرة المفرغة؟ بالطبع لن تستطيع قوى السوق ولا من تمثله الهيئات الاقتصادية إخراجنا منها. نستطيع ذلك فقط عبر سياسات عامة تهدف الى استغلال «النموذج الريعي» لإنهائه عبر سياسات ضرائبية على الريع تنقل الموارد منه الى القطاعات الانتاجية العامة والخاصة (انظر مقالتي) وعبر سياسات صناعية واضحة وضخمة تذهب الى ابعد من بهلوانيات «صنع في لبنان» وشلل مؤسسة «ايدال» في بناء الاقتصاد الصناعي الذي يستطيع الآن ان يستفيد من المعرفة التي تراكمت في الخارج وعبر ارتفاع منسوب التعلم العالي في الفترة الاخيرة. وهنا لا بد من الاشارة إلى انه لم يفت الأوان بعد، بل يمكن الاستفادة أيضاً لربما من ايجابية تكمن في ما حصل. اذ بينت دراسة اخيرة ان الدول التي تتمتع بهجرة اكثر من غيرها يؤدي بها ذلك الى ان تنمو لديها بشكل اكبر القطاعات ذات المعرفة المكثفة. ويحصل ذلك بسبب عودة المهاجرين وانفاق التحويلات على التعليم وحصول تحفيزات عالية للتعلم. وهذه الأمور مجتمعة قد تتغلب على الاثار السلبية الآنية لخسارة الرأسمال البشري عند الهجرة. اذا كان ذلك صحيحاً فإننا قد نكون امام فرصة أخرى (وهذه الامور لا تحصل دائماً) لاقامة اقتصاد عصري متقدم.
لقد اتت مرة اخرى ازمة حقيقية، او محتملة، بين لبنان ودول الخليج لتطرح موضوع النموذج الاقتصادي اللبناني على بساط البحث. الرسالة التي تطرق ابواب القصر الجمهوري اليوم ليست ما العمل فقط؛ بل الادراك بأن هؤلاء الذين خربوا الاقتصاد لا يمكن ان يصلحوه. فهؤلاء لن يستطيعوا ان يحلوا ما يمكن تسميته «مفارقة ماركس» خلال قعر دورة الاعمال. فكما يقول دافيد هارفي، التراكم الزائد للرأسمال يؤدي الى «حالة حيث الرأسمال المتبطل والعمالة المتبطلة يقفان جنبا الى جنب من دون ان يكون هناك طريقة عفوية لجمع تلك الموارد الخاملة من اجل تحقيق اهداف اجتماعية نافعة». في لبنان يحصل هذا اليوم بشكل ليس فقط دورياً، بل بشكل بنيوي مما يهدد بركود عميق طويل الامد. فكما الرأسماليون لن يصلحوا ما بحالهم وطرقهم، كذلك فإن الخروج من هذا الفخ الذي نصبوه لانفسهم وللبلاد لن يحصل اوتوماتيكياً في ظل هذا النموذج القديم؛ ولذلك علينا ان نعي ان الطريق الوحيد ليس اصلاحه بل كسره وانهاؤه.