في أحد مقاهي ساحة النور في طرابلس، جَلَس الأمين القطري المساعد لحزب البعث (الذي يرأسه نعمان شلق) نبيل قانصو، قبل قرابة أسبوعين، يدخّن النرجيلة. رافق الطبيب عنصرا حراسة يرتديان لباساً عليه شارة حزب البعث السوري. صودف مرور أحد الضباط الأمنيين، فصرخ بقانصو: «شو؟ رجعوا البعث عا طرابلس؟».
قد يمرّ الخبر عادياً لدى نسبةٍ كبيرة من اللبنانيين، التي لا تعرف مثلاً أنّ قانصو سبق أن خرج من الفيحاء تحت الضغط بعد الأحداث الأمنية في 2011، التي فرضت توقف الأحزاب التابعة لفريق 8 آذار، والتي تدور في الفلك السوري، عن ممارسة العمل الحزبي بنحو مُنظّم وعلني. حتى إنّ الأحزاب والشخصيات السياسية البارزة في المدينة باتت «تخجل» من تحالفها السياسي مع أحزاب «8 آذار»، وتطلب تنسيقاً من «تحت الطاولة»، خوفاً من تشتّت أصوات ناخبيها. خطوة قانصو لن تكون يتيمة. يقول لـ«الأخبار» إنّه سيزور طرابلس دورياً، تحضيراً لتنظيم العمل السياسي والحزبي لـ«البعث»، إضافةً إلى لقاء الأحزاب الوطنية الذي اجتمع في 2 كانون الأول في مركز الحزب العربي الديمقراطي في جبل محسن. اجتماعات «اللقاء» ستكون، بحسب العربي الديمقراطي، «أسبوعية. بعد الفراغ الذي سبّبته 8 آذار بغيابها عن طرابلس، تحاول إعادة الاستقطاب. حتى الآن، ما زلنا في المرحلة التحضيرية».
كلّ الأحزاب القريبة سياسياً من «سوريا الأسد» تسعى إلى إعادة إيجاد موطئ قدمٍ لها في الفيحاء. التطورات الميدانية في سوريا التي تصبّ لصالح الدولة وحزب الله وإيران وروسيا، «تدفع الأحزاب والشخصيات السياسية في لبنان إلى محاولة استثمارها لمصلحتهم»، استناداً إلى مصادر سياسية في طرابلس. إلا أنّ العثرة هي «عدم قدرة هؤلاء على الانطلاق بزخمٍ من جديد، نتيجة غياب القرار الموحّد». إضافةً إلى أنّ جمهور 8 آذار في طرابلس، خارج التيار الذي يقوده الوزير السابق فيصل كرامي، «لا يتعدّى الـ500 أو 600 صوت، بحدّه الأقصى، رغم ادعاءات مسؤوليه أنّ بإمكانهم تجيير آلاف الأصوات». كذلك إنّ الانقسامات داخل حزب البعث، «ستؤثر سلباً عليه».
لا يوافق نبيل قانصو على ما تقدّم. ويؤكد وجود «قرار من قبل القيادة المركزية لحزب البعث بالعودة إلى طرابلس، بعد أن تبيّن أن الخيارات السياسية السابقة خاطئة وأنّ رؤيتنا هي الصحيحة». وأولى الترجمات العملية، ستكون من خلال «افتتاح مركز حزبي، خلال شهرٍ، في جبل محسن». تُعدّ هذه الخطوة استفزازية للحزب العربي الديمقراطي، المرجعية الحزبية الوحيدة في «الجبل» ولدى الطائفة العلوية. وجود حزبٍ آخر، من «الخطّ» نفسه، يعني أنّ القيادة السورية قرّرت «كفّ يد» مُمثلها في جبل محسن «الذي يخفت نجمه في زمن التسويات السياسية»، كما تقول المصادر الطرابلسية، وربما إنهاء دور الأمين العام للعربي الديمقراطي رفعت عيد. افتتاح مكتب للبعث سيؤدي إلى نشوب «صراع نفوذ» بينه وبين العربي الديمقراطي، وتصادم حزبي. يقول قانصو إنّ «أخي رفعت موجود في جبل محسن، ولكن الناس بحاجة إلى من يملأ الفراغ على الأرض ويتواصل معها». أمّا بالنسبة إلى العربي الديمقراطي، فكلام قانصو «غير دقيق، ولا يوجد فراغ. فنحن موجودون ورفعت مُطلع على كلّ التفاصيل. وفي الأصل، كانت هناك شعبة للبعث في جبل محسن ومكتب في طرابلس، ولكن العمل لم يكن مُفعلاً». الحركة السياسية النشيطة لفريق 8 آذار، تخفت لدى الأحزاب الأخرى في طرابلس. المدينة ما زالت تُحاول بلورة تصور واضح لمرحلة ما بعد أزمة رئيس الحكومة سعد الحريري. السكان غارقون في همومهم، فإضافةً إلى العمل البلدي المُخيب للآمال، والمشاكل الاجتماعية، يستفزهم كيف أنّ «معظم الموظفين في شركة كهرباء قاديشا من مدينة البترون». أما سياسياً، فلم يخفت بعد الصراع الشعبي بين أنصار تيار المستقبل وأنصار الوزير السابق أشرف ريفي.
استفاد تيار المستقبل مما جرى للرئيس سعد الحريري في السعودية يوم 4 تشرين الثاني، «ليأخذ نفساً شعبياً، معولاً على أنّ الناس يُحبّون السلطة، وملّوا من الخطاب المُكرّر لريفي من دون أن يُقدّم بديلاً»، تقول مصادر سياسية طرابلسية، على الرغم من أنّ «العودة عن الاستقالة أدّت إلى انحسار موجة التعاطف مع الحريري».
من جهتها، تقول مصادر تيار المستقبل الشمالية إنّ «ما حصل مع الرئيس الحريري لا يوصف بالمصيبة، فرُبّ ضارة نافعة». كيف سيُستثمَر ذلك؟ «نُعوّل على ما يقوم به رئيس الحكومة، كالمشاركة في مؤتمر الدعم الدولي للبنان وغيره من الخطوات. أما شعبياً، فهناك أبو العبد (الوزير محمد كبارة)!». يُراهن خصوم تيار المستقبل على أن تنعكس شراكته بالتيار الوطني الحر عليه سلباً، ويكون ذلك لمصلحة ريفي. تردّ المصادر بأنّه «صحيح تأذّينا من طريقة تصرّف العونيين سابقاً، في التعيينات والخطاب الذي هدف إلى شدّ العصب المسيحي. ولكن ما بعد 4 تشرين الثاني، ووقوف التيار الوطني الحر إلى جانبنا، لا يُشبه ما قبله».
يُضاف إلى موقف التيار العوني، الطريقة التي تصرّف وفقها الرئيس ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه برّي وحزب الله، وأدّت إلى إفشال المُخطط السعودي لإشعال لبنان. تراجعت القيادة السعودية خطوات إلى الوراء، وما زالت مُلتزمة «النأي بالنفس» عن الساحة اللبنانية نتيجة التأنيب الأميركي لها. على الرغم من ذلك، ما زال فريق عمل ريفي يتصرّف كما لو أنّ ولي العهد محمد بن سلمان سيأتي على صهوة حصانه ليفتح لبنان ويُعيّن ريفي حاكماً عليه. يقول أحد المسؤولين مع اللواء المتقاعد، إنّ «السعودية رفعت الغطاء عن الحريري». قد يكون ذلك صحيحاً، ولكنّها لم تمنحه لريفي. يردّ المسؤول بأنّه «قريباً ستُحدّد المملكة العربية بأنّ البديل سنياً هو اللواء أشرف ريفي، الذي يحمل مبادئ وثوابتها». يبدو المسؤول واثقاً جداً، ولكنّه هو نفسه يتحدّث عن تنظيم «لقاء شعبي قريباً، الهدف منه إعادة شدّ العصب من جديد ورفع معنويات جمهورنا، بعد أن شدّ الحريري عصبه. أما مرحلة المواجهة، فستبدأ بعد رأس السنة».