إن كان اهتمام شركات كبرى من نوع توتال الفرنسية وايني الايطالية باستثمار البترول والغاز في المياه اللبنانية أمراً طبيعياً، فالأمر ليس كذلك بالنسبة لتحالف هاتين الشركتين العالميتين مع الشركة الروسية نوفاتيك (Novatek)، في اطار ما سمي «العرض» الوحيد الذي اعلنت عنه وزارة الطاقة في 12 تشرين الاول الماضي. إنه غير طبيعي لأنه يطرح عدداً من التساؤلات حول نقاط جوهرية بحاجة ماسة للتوضيح.
النقطة الأولى تتعلق بحقيقة الدور الذي يمكن أن تلعبه، أو المهام العملية التي يمكن لنوفاتيك القيام بها في مجالي التنقيب عن البترول والغاز وإنتاجهما في المناطق البحرية. إذ إن الشركة المذكورة لا تملك أية خبرة في هذا المجال، وإن وزارة الطاقة وهيئة البترول قد قامتا أصلاً بتصنيفها، وهذا تحصيل حاصل، في عداد الشركات المؤهلة مسبقاً، ولكن «غير مشغلة»، أي بتعبير اوضح غير قادرة على القيام بعمليات التنقيب والإنتاج في المناطق التي تم استدراج عروض لاستكشاف وانتاج البترول والغاز فيها.
هذا مع العلم ان نوفاتيك شركة خاصة روسية تأسست عام 1994 وان السيد ليونيد ميكلسون، رئيسها وأكبر مساهم فيها، هو واحد من رجال الأعمال الروس المعروفين بتعبير «اوليجارك» (Oligarchs)، أي «القلة» التي وضعت يدها على الثروات الطبيعية ومرافق إنتاج الاتحاد السوفياتي سابقاً، في أعقاب عملية «الخصخصة» قبل عقدين من الزمن، وتمكن أعضاؤها بين عشية وضحاها من جمع أموال تقاس بمليارات الدولارات وتضاهي ثروات نزلاء فندق ريتس كارلتون في الرياض. وذلك دون أي عناء يذكر، أي دون جهد أو تجربة أو تطوير تكنولوجي أو إنجاز علمي جديد. وإن كان من حقها الحلم بتكرار هذا الإنجاز في لبنان، فمن حق اللبنانيين التساؤل عما إذا كانوا بحاجة لخدماتها!
هذا الواقع يطرح عدداً من الأسئلة أهمها: ما هي حيثيات قبول وزارة الطاقة وهيئة البترول بتأهيل هذه الشركة «المسبق» واللاحق للقيام بأنشطة هي عاجزة عنها؟ ولماذا قبول شركتي توتال وايني بالتحالف معها؟ ولماذا قبول «عرض» هذا التحالف من قبل المسؤولين اللبنانيين، مع ما رافق ذلك من الترحيب والتطبيل والتزمير؟
إنها أسئلة مطروحة وستظل مطروحة بانتظار معرفة أسباب «تأهيلها» والتأهيل بها في لبنان وأهداف تحالفها مع الشريكتين الفرنسية والإيطالية. بانتظار ذلك (إذا حصل!)، يمكن التأكيد على أن ما قد تقدمه من خدمات لا يمكن بشكل من الأشكال أن يكمن لا في تجاربها الخاصة أو في قدراتها التكنولوجية أو العلمية أو المالية. وذلك لأن شركات عملاقة من عيار توتال وايني ليست بحاجة لهذه القدرات. وعندما تحتاج فعلاً شركات البترول العالمية لمصادر تمويل خارجية، أو لهذا النوع أو ذاك من التكنولوجبا التي لا تسيطر عليها بالقدر اللازم، فإنها تلجأ عادة لمصادر تمويل عالمية معروفة، أو لأحد ما يسمى شركات الخدمات المختصة في هذا المجال من نوع هاليبرتون، أو شلومبرجيه، أو بيكر هيوجز، أو فليور، أو ويزرفورد، وغيرها وغيرها...
ومن الغريب أن لبنان هو البلد الوحيد الذي شاءت الأقدار ان تغيب عنه هذه الشركات كلها وان ينحصر «نصيبه» في شركة روسية يصعب اعتبارها مرجعاً مرموقاً للتمويل أو التكنولوجيا المطلوبة.
نقطة ثانية يلفها الضباب تتعلق بسبب الطلاق الذي حصل بين نوفاتيك وشريكتها الروسية أيضاً GPB التي حصلت معها عام 2013، بالتضامن والتكافل، على تأهيل مسبق ورسمي. فما هي المستجدات التي جعلت وزارة الطاقة وهيئة البترول تتراجع عن موقفها وتلغي في مطلع هذا العام التأهيل الممنوح لهذه الشركة وتترك الميدان حرّاً أمام نوفاتيك؟
نقطة ثالثة لا تقل أهمية عما سبق تتعلق بالاختفاء المفاجئ والكامل من على المسرح للشركات الصورية أو المارقة الأخرى التي بذلت جهوداً كبيرة منذ سنوات للتحالف مع شركات بترولية كبرى «مشغلة» لتقديم عروض استكشاف وإنتاج. ولماذا وقع اختيار توتال وايني على نوفاتيك دون غيرها؟ قد يكون السبب أن لشركة توتال مساهمة 16.3% في رأسمال الشركة الروسية، مما يعطيها لأول وهلة مصداقية تفتقر لها معظم الشركات «غير المشغلة» الأخرى، وفي طليعتها الشركات الوهمية التي أصبح القاصي والداني يعرف أن المطلوب منها هو تولي «المهمات القذرة»، أي أن تكون مجرد غطاء لمصالح خاصة. ميزة أخرى للشركة الروسية هي كون منشئها في بلد له أسبابه في ازدهار «الاوليجارك»، وفي ابتعاده عن كل الاتفاقيات الدولية التي وقعتها الدول الأخرى، من ضمن أو خارج منظمة OCDE، لمكافحة الفساد في العلاقات بين الدول، خاصة البترولية.
أخيراً لا آخراً، يبقى السؤال الأهم والأبعد من ذلك بكثير، ألا وهو: لماذا هدر الوقت وضياع السنين بإلهاء اللبنانيين بالحديث عن شركات «غير مشغلة» أو مشبوهة (ولا لزوم لها أصلا)؟ يركض البعض ويلهث وراءها كي تتحالف مع شركات «مشغلة»، أي كي تحل محل شركة نفط وطنية، تمثل المصلحة العامة وكل اللبنانيين؟ ولماذا التعتيم على هذا السؤال ومبرراته، أيضاً وأيضاً تحت ستار السرية، على معطيات العرض البترولي المزمع رفعه لمجلس الوزراء للموافقة عليه. أي عرض مشروع اتفاق لمدة تقارب الأربعين عاماً يمكن خلالها شفط معظم أو كل ما يمكن اكتشافه من بترول أو غاز، وشفط ممتلكات وآمال اللبنانيين!
يبقى الأمل الكبير أن يتم وضع حدٍّ للسياسة العبثية التي تم اتباعها حتى الآن وما آلت إليه من نتائج مهينة ومؤلمة، بالإسراع في إصدار مشروع قانون إنشاء «شركة البترول الوطنية اللبنانية»، الذي قدم للمجلس النيابي في 5 كانون الأول. خاصة وأنه مشروع متكامل يتجاوب ومختلف مستلزمات الشفافية وتفعيل صلاحيات التشريع والرقابة العائدة للمجلس النيابي دون سواه، إضافة إلى المساءلة وآلية الحوكمة السليمة. علاوة على ذلك ينصّ مشروع القانون المذكور في فصله الأول على أنه يحق للشركة الوطنية «شراء حصة» ( Back-in Rights) في أي حقل بترولي أو غازي كان، مستخدمة حصتها من الأرباح المستقبلية التي سيتم تحقيقها في مرحلة الإنتاج للحقل المعني، بغية تسديد حصتها من التكاليف التي تكبدتها الشركات الأجنبية في مرحلتي الاستكشاف والتطوير. مع الإشارة إلى أن هذا الحق يبقى على حاله بالنسبة للاتفاقيات التي قد تسبق تاريخ إنشاء الشركة الوطنية.
هذا كله يعني عملياً العودة للتقيّد بالمبادئ الاساسية التي نص عليها القانون البترولي 132/2010، وفي طليعتها تبني المفهوم الحقيقي لنظام تقاسم الإنتاج المطبق في أكثر من سبعين دولة. كما يعني تصحيح الانحرافات المذهلة التي حصلت، بما في ذلك تنازل الدولة عن صلاحياتها وعن دورها المحوري في الأنشطة البترولية نتيجة للمادة 5 من المرسوم 17/2017. كما أن المنطق يقضي أن تؤخذ هذه المبادئ الأساسية كمسلمات لا تقبل الجدل في مراجعة كاملة وعلى أعلى درجة من الشفافية لما سمي بالعرض المقدم من ائتلاف توتال وايني ونوفاتيك.