للمرة الأولى منذ اثنين وثلاثين عاماً سيسهر الموت في دارة الحاج فايز مغنية وحيداً. لن يجلس أبو عماد قبالته ينفث دخان سيجارته في وجهه. بعض سهراتهما لامست أعلى مراتب الملل. بعضها الآخر كان الحاج فايز يسخر منه عندما يحاول أن يسليه كذباً بإخباره كيف تمكن من نجله عماد في أكثر من مناسبة. تعرّف فايز مغنية إلى الموت، حتى لم يعد يجهله في شيء.كانت المرة الأولى كافية عند تلقي خبر استشهاد جهاد عام 1984، منذ ذلك اليوم أصبح ضيف العادة يغير ثوبه فقط، مع فؤاد عام 1994 جاءه رامياً بوجهه ثقل اليتم، فقد ترك فؤاد ثلاثة أبناء ليحتضنهم جدهم.
سيقول البعض: لا همّ، فما زال عماد واقفاً. قد لا يصدق كثيرون أن حسابات أبو عماد ليست كذلك. في 12 شباط 2008 ظنّ الموت أنه سينهي اللعبة مع فايز مغنية، وأنه سيعوّض سنوات الأرق والسهر بإقلاقه وسلب راحته. قتل الحاج عماد مغنية في دمشق، من جاء يزفّ الخبر للحاج فايز في الصباح الباكر خاف على صحته.

قال له إن عماد تعرّض لحادث سير على طريق ضهر البيدر. مرت لحظات صمت. لعل قلبه كاد أن يتوقف. انتبه المبلّغ أن ثمة ما «لم يركب» في رأس «والد عماد مغنية». لا مهرب من قول الحقيقة في محضره: «الحاج عماد استشهد بتفجير في دمشق». وقف أبو عماد قائلاً: «طمنتني الله يطمنك!!». قضى على الموت بالضربة القاضية. ما «لم يركب» في رأسه هو موت ولده على فراش أو في حادث سيارة. ليس هذا نتاجه ولا هذه تربيته. أبو عماد يدرك معنى أن تجبل الروح وتعجن البصيرة. عماد هو خلطته السرية، عجينته الفريدة، منذ كان طفلاً في الشياح لم ينتمِ إلى اللاعبين في أزقتها، بل امتشق البندقية والتصق بالقائد علي حسن ديب (أبو حسن سلامة). كان يمكن الحاج فايز أن يسدّ عليه الأبواب، أن يجلسه في الغرف الضيقة ويقذف كرة في وجهه ويدفعه للعب في الحارات. لكنه أراده أن يقذف كرة اللهب بوجه إسرائيل. كان يمكن أن يدخله في زواريب الطائفية الضيقة، إلا أنه لقنه الوحدة الإسلامية على نهج المدرسة الخمينية. لم يمنعه أحد من أن يختار لولده ذي الملامح الجميلة والكاريزما مشروعه الخاص، لكنه فضّل أن يكون ابنه مشروع الأمة. زهد فيه وفي عواطفه تجاهه لترغبه فلسطين وفدائيوها ومقاوموها.
في ذلك الصباح عندما أبلغ باستشهاد عماد، علم أنهما سيخرجان إلى الضوء، هذا خروج متلازم، اطمأن إلى أن خروج الحاج رضوان شهيداً سيخرجه والداً فخوراً. هذا الفخر، الفطرة الإنسانية لأي أب تجاه ابنه تأخرت ثلاثة عقود من الزمن. لا الوالد اهتمّ به، ولا الولد سعى خلفه. عند خروجه إلى الضوء كان فخره بأنه «أبو عماد مغنية» الذي ترك خلفه عشرات الآلاف من السائرين على دربه.
بعد استشهاد الحاج عماد لم يثمل والده بالمجد. كان غالباً ما يصمت طويلاً. لم يميز نفسه عن آباء من استشهدوا من مقاتلي الحزب. حرص على القيام بواجب العزاء رغم وضعه الصحي. كان يستغل انشغال الموت عنه... إلى حين.
عاد الضيف القديم، كان ثقيلاً جداً هذه المرة. عام 2015 استشهد جهاد عماد مغنية. تتشابك الأمور هنا بين شخصية جهاد التي تعلق بها الجد، وبين أنه نجل عماد. بعد الدفن كان الحاج أبو عماد تعباً للغاية. في صالون المنزل تهامس بعض الجالسين: «هالمرة غير، الحج عن جد تعبان». سمعهم أبو عماد: «إي والله غير، لما استشهدوا التلاتة أنا كنت مبسوط. حتى وقت الحاج عماد كنت كتير مبسطلو، بس جهاد (اختنق بعبرته) هيدا كسرلي ضهري (رجف الصوت)». ساد صمت، أطال الحاج فايز النظر بصورة جهاد. كانت المرة الأولى التي يضحك فيها الموت في هذا المنزل.
خلال الأشهر التالية حكمت الحالة الصحية المتقلبة يوميات أبو عماد، كل من زاره لم يرَ منه إلا ابتسامة ودعاء بحماية المقاومة وسيدها، وعندما تسعفه الحال يمضي لزيارة روضة الشهداء في الغبيري.
تدهورت حالته الصحية. في مستشفى بهمن سيزوره الموت للمرة الأخيرة، مضى عن ثمانين عاماً؛ في يوم تشييعه خرجت بلدته طيردبا وجمهور المقاومة للوداع، كان يمكن الإنصات إلى ضحكات ترتفع، قدم الحاج عماد وفؤاد والجهادين لاستقبال الوالد... أخيراً سيتسنى للحاج أبو عماد أن يسمعها.