كان صباحاً شتوياً، ومع هذا لم أشعر بالبرد. أنعشتني نداوة الهواء، فرفعت رأسي لتأمل الجبل المجاور. من مكاني تحته لم أكن قادرة على الإلمام بكامل هيكله. قررت تسلقه لرغبتي في رؤية العالم بعينه. بحثت عن الطريق الصاعد إلى قمته. لم أتساءل من نحت درجاته وخشَّنها بحيث لا تنزلق الأقدام عليها. انغمست فقط في الصعود، لأكتشف أن المشقة المفترضة ليست جسدية بقدر ما هي عقلية.
كلما صعدت للأعلى، غامت رؤيتي للعالم من حولي. خُيِّل لي أن الأبعاد والظواهر الجغرافية يعاد تشكيلها. فالبحر بالأسفل ليس هو البحر، والغابة ليست بغابة والسماء تختلف عن كل تخيل ممكن لها.
جالت في ذهني فكرة أن الجبال أماكن للتجدد والولادة مرة أخرى، ثم كفت عن كونها مجرد فكرة. صارت واقعاً لا يني ينبعث كل مرة بشكل مختلف. مع كل درجة أصعدها كنت أولد من جديد. أتعدد وتتنوع حيواتي.
في لحظة ما، كنت مالكة مقهى بالقرب من شاطئ صخري مرتفع. يصلني هدير الموج إذ ينكسر على الصخور، فيعاود لجوءه إلى البحر، وتقتنص أذناي بقايا ضجة عربات مارقة بسرعة على طريق بعيد. بينما أعيد ترتيب مقهاي المرة تلو الأخرى، كنت أنظِّم ماضيّ وأخبِّئ أسراري داخل أدراج محكمة الغلق.
في لحظة تالية، رأيتني طفلة تجلس أعلى جميزة وارفة. تحتها ساقية تترقرق مياهها حين يباغتها شعاع شمس متسلل من مظلة الأغصان والأوراق، وفوقها سماء يغار أزرقها من أخضر داكن يهب الظل. كنت أتحرك من فرع لآخر محاذرة الوقوع. أختِّن الثمار. يؤلمني جرحها ويواسيني أنها لن تطيب بدون تلك الندبة. ثقب صغير يسمح للهواء بالنفاذ للداخل، ويعلِّمني أن الألم ضريبة النضج، فأنتظر آلامي الخاصة طامعةً فقط أن تكون وليدة يدٍ متعاطفة معي لا حاقدة عليّ.
أتضايق حين أتذكر أن أبي لم يأتمنني في البداية على هذه المهمة. وأفرح لاستعادة دهشته إثر تذوق أول ثمار ختنتها الموسم الفائت. أقفز من فوق الشجرة. أتحسس الأرض أسفلها، وبعصا رفيعة أخط حروفاً وأشكالاً تبدو كما لو كانت تأتيني من عالم آخر.
توقفتُ لالتقاط أنفاسي، وحين عاودت التسلق وجدتني وُلِدت مجدداً كهاربة لا مستقر لها. أرتحل على دروب خطرة. أستعير من الأفاعي قدرتها على تغيير جلدها، ومن الحرابي موهبتها في التلون والتماهي مع الوسط المحيط.
تسارعت دقات قلبي كأنما أركض هاربة بالفعل من مطارِد محنَّك. انتبهت إلى أن كل الأماكن التي تحضرني في تجسداتي هذه منعزلة وتكاد تكون خالية من سواي. لم أجد تفسيراً لهذا. عصرت مخي في محاولة الإجابة على تساؤل: هل كان هناك آخرون غير ذواتي المفترضة؟ وتمثَّلت إجابتي في أن الآخرين مثلوا فقط كاحتمال لا سبيل للتأكد منه: زبائن منتظَرين للمقهى، أب غائب تستدعيه أفكار الطفلة، مطارِد خارج مشهد الهروب. كانوا مغيبين عن لحظاتي المستعادة، لكنهم موجودون على حافتها. أما الآن فقد صفصف الكون بكامله عليّ.
أخذتني أفكاري، فلم أدر بنفسي إلا وأنا فوق قمة الجبل حيث قلعة مهيبة تواجهني وتفتح لي ذراعين وهميتين لاحتضاني. كانت تحتل معظم المكان. أمامها ساحة مسوَّرة وخلفها حقل صبار تتصدره شجيرات أوراقها مدببة، تليها دائرة مزروعة بصبارات بيضاوية صغيرة، تنبعث منها أبخرة تعبِّق الهواء برائحة نفاذة وتدمغه بلون مائل للزرقة. كلما استنشقتُ الأبخرة وتمعنتُ في زرقة تُلوِّن بها الهواء، كلما أحسستُ بخدر يسري في جسدي وتنميل في عقلي.
بدت الغيوم داكنة، رمادية تميل للسواد، أطرافها محددة بفضي لامع. كنت أراها تمر بجواري. تطفو بالقرب مني. أمد يدي للقبض عليها فتراوغني. أتخيلني أخطو فوقها، أقفز من غيمة لأخرى، فتنثال مني ذكريات عجيبة ليس بمقدوري موضعتها في مكانها المناسب، إذ لا أعرف إن كانت تنتمي لتاريخي الشخصي أم للتاريخ الجمعي لجماعة كنت أنتمي إليها.
لم أهتم. تقتُ لمضاعفة حساسيتي تجاه كل ما حولي. اشتقت للغرق في لحظتي الحاضرة، وإن لم أتوصل إلى سبيل محدد لتحقيق هذا الهدف.
حل المساء فجأة. توسط السماء قمر مشتعل. بدا كقطعة نار برتقالية، لهبها انعكاس لنيران اشتعلت وحدها في مشاعل فوق أسوار القلعة، فجلبت معها دفئاً وصوت طقطقة يؤنس المكان، وينبهني إلى أن الصمت كان مطبقاً قبله. على صفحة السماء، دارت غربان في حلقات قبل أن يبتلعها ثقب أسود، فلم تخلِّف أثراً.
تماوج الهواء أمام عينَيّ، وحرَّك ظلال ألسنة اللهب حولي. شعرت بعقلي ينسحب مني، يختفي داخل دهاليز معتمة تاركاً لي مراقبة الظلال المهتزة. راقتني فكرة عيش حياة من هلوسات متتالية، لا أهتم معها بالفرق بين الواقعي والمتخيل، أو بين الوهم والحقيقة.
فكرت في أن الجنون هو الغياب التام للموجودات الخارجية والغرق في الذات، ثم غيرت رأييّ. قلت بصوت مرتعش: بل هو الحضور المكثف للعالم بأدق تفاصيله وأبسط همساته مع تلاشي الذات. الجنون قلب راءٍ لما يعجز الآخرون عن رؤيته. عجز يقودهم إلى تكذيب الرائي ووصمه بفقدان العقل.
لكن أين الآخرون؟ أي عاصفة اقتلعتهم؟! أي قيامة ابتلعتهم في أحشائها؟!
خطرت ببالي كلمات مثل الحب، الكراهية، الجسد، فاكتشفت أنَّي فقدت القدرة على فهم معانيها، ونسيتُ كيف تتشكل الأفكار في الذهن. صار عقلي فارغاً. أضحى وعاءً خشبياً خرِباً تتعفن فيه الأفكار وينخره السوس.
شعرت أنّي في خصومة مع الكون. لم أفقد عقلي كما تخيلت، بل العالم هو ما جُن وأمعن في جنونه. لم يعد هناك شيء كما كان. وخطيئتي أنّي رأيت. أنّي عبرت الخيط الفاصل وأبصرت الوجود عارياً مهلوِساً وبلا معنى.
رحت في سبات أشبه بغيبوبة. فتحت عينَيّ مع شروق الشمس. كان القمر المشتعل قد غاب كأنما لم يكن. عادت للسماء زرقتها وللسحب بياضها الحليبي. بدا العالم كأنما وُلِد من جديد. عالم بكر خالٍ من الآلام والندوب.
درتُ في المكان للتأكد من أنّه لا يزال على حاله. حاذرت الاقتراب من حقل الصبَّار. انتبهت إلى المناظير المقرِّبة المثبتة على مسافات متقاربة فوق السور المحيط بالقلعة. اقتربت من أحدها، ونظرتُ عبره، فرأيت مدناً مدمرة بالأسفل. خرائب وبقايا أسلحة صدئة وحافلات تركت مئات الطلقات آثارها عليها. خمنت أنّ حرباً جرت وقائعها في الجوار. انتقلت من منظار إلى آخر، ومع كل منها كنت أبصر أطلالاً وركاماً.

«لم تكن حرباً واحدة»

قلت لنفسي محاولةً التدقيق أكثر في تفاصيل ما أراه.
واجهتني حقول محروقة، بساتين أشجارها مجرَّفة، دخان يتصاعد من حرائق بعيدة، صحراء، وخلاء يحجبه السواد. غطَّت رائحة الحريق على ما عداها من روائح. تذكرت بلا مقدمات جغرافيا المنطقة كما رأيتها أمس قبل صعودي إلى قمة الجبل. لم يعد هناك أثر للبحر ولا للغابة الممتدة. استحوذ عليّ إحساس أن الجبل نفسه غير موجود إلّا في خيالي.
ابتعدت عن السور، واتجهت بكامل إرادتي صوب حقل الصبَّار. ارتميت داخل الدائرة المتوسطة له بصباراتها البيضاوية. لم أنتظر حتى يسري مفعول أبخرتها في جسدي. قضمتُ جزءاً من واحدة منها، ومضغته. وحين بدأ عالمي في الاهتزاز والتماوج، ارتسمت على شفتَيّ ابتسامة مطمئنة. ثم لم أعد واعية بكنه ما أختبره. راقني الاستسلام له والغرق فيه. الرقود في قاع ما بينما تنهمر عليّ شلالات وفيضانات من صور وخيالات ومشاهد راكضة. لا تتجسَّد أمامي، بقدر ما تجري داخلي. تتمسرح في ثنايا عقلي المشحوذ وحواسي المسنونة. في لحظة بعينها، أحسستُ أنّي لم أعد فوق جبل، بل ــ بطريقة ما ــ صرت فعلاً في أعماق نهر منصة إلى أدق خلجاته ومغمورة بذكريات لا سبيل للهرب منها.
* كاتبة مصرية