أصدر عدد من الفنانين والمثقفين والمبدعين التونسيين عريضة دعوا أقرانهم إلى توقيعها وجاء فيها:دفاعاً عن البلاد وعن الدّستور والحريّات
بعد سبع سنوات من اندلاع الثورة التونسية، لم يُلَبَّ خلالها أيٌّ من المطالب الأساسية للمواطنين، بات واضحاً أنّ المستفيد الأوّل من سقوط النظام القديم هو جماعات المال الفاسد والمافيا. فالهوّة لم تتقلّص بين تونس الدّاخل وتونس السّواحل؛ وسكّانُ الأرياف مازالوا يعانون غياب تكافؤٍ هيكليّ مع المجتمع الحضري.

وما فتئ سكان الأحياء الحزامية حول المدن الكبرى يغرقون في التهميش؛ ولا وجود لأيّ اِستراتيجيا لإدماج الأنشطة المُوازية ضمن الاقتصاد المهيكل. وظلّ العمّال والموظّفون يعيشون تحت وطأة سياسة التأجير المتدنّي، وحتى الزيادات التي ظفروا بها منذ 2011 قضى عليها التضخّم المتزايد. وأصبح الشباب الحامل للشهادات يعاني أكثر من أيّ وقت مضى من البطالة بسبب نظام إنتاجي ضعيف التطوّر. وما برحت الطبقة الوسطى، وخاصّة أصحاب المؤسسات الصغرى والمتوسّطة، يخضعون إلى ضغط الدولة المتواصل، ويجدون أنفسهم بين فكّي الاقتصاد الموازي والمنظومة الريعيّة حيث تستأثر فئة محدودة بالنفوذ الاقتصادي وتستفيد من عائداته.
إنّ سقوط بن علي لم يترتّب عنه سقوط نظامه الاقتصادي. فالشبكات القديمة انتظمت من جديد، ثمّ استعادت نفوذها داخل الإدارة والقضاء والإعلام، وداخل الأحزاب السياسية أيضا. أمّا الحكومات المتعاقبة منذ 2011، فقد تجنبت خوض مواجهة مباشرة ضدّ الفساد وضدّ الامتيازات غير المشروعة.
لقد أسقطت الانتفاضة الشعبية الدّكتاتورية وأرست مناخَ حريّةٍ تُوِّج سنة 2014 بإقرار دستور ديمقراطي، ذي طابع برلماني، يرسي نظاماً مدنياً ويحمي حقوق المواطنين والحريات العامّة والفردية. غير أنّ هذه الإنجازات لم تكن استجابة إلى حاجات المواطنين الملحّة، ولكنها تَقَدُّمٌ في اتجاه فتح الطريق أمام مرحلة جديدة من النّضال لإنجاز التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية التي تتطلّبها البلاد. وهو ما من شأنه تحويل الانتفاضة إلى ثورة حقيقية أيْ إلى تحوّلات شاملة تتجاوز ما هو سياسي، لتشمل كلّ أبعاد الحياة الوطنية.
إنّ الدستور الجديد ومساحات الحرية الجديدة جميعها مكتسبات ثمينة ومَعْبَرٌ للمرور إلى الديمقراطية الفعلية. وهذه المكتسبات نفسها أصبحت اليوم مهدّدة على نحو خطير من الباجي قايد السّبسي، بتواطؤٍ مع راشد الغنّوشي اللّذين توافقا على ضرب البلاد وديمقراطيتها الناشئة.
لقد تسارع في سبتمبر الماضي الهجومُ على الديمقراطية. ففي 7 سبتمبر أدلى رئيس الجمهورية بحديث إلى الصحافة الوطنية، تنكّرَ فيه للقَسَم الذي أدّاه أمام الشعب، فتهجّمَ على الدّستور، وعلى النظام البرلماني، وشكّكَ في الهيئات المستقلّة، ودافعَ عن عودة النظام الرئاسوي والحكم المطلق. كما ذكر، في معرض حديثه، أنّ الثورة «قوس ثوري وثأري حاقد»، وأعلن عن تأجيل الانتخابات البلدية. وجاءت حكومة يوسف الشاهد الثانية لتؤكّد، بوضوح، العزمَ على إسقاط تلك «الوصفات»، إذ أنّ أكثر من نصف الوزراء المُعَيَّنِين قادمون من التجمع الدستوري الديمقراطي، بينما أُسْنِدت أهمُّ الحقائب إلى مُقرَّبين من قايد السّبسي. وفي نفس السّياق، نُدرجُ محاولة إسناد مقعد شاغر في مجلس نواب الشعب إلى ابن الرئيس، لكنّ مصيرها كان الفشل. وكتتويج لهذه العملية، صَوّتَ نوّابُ حزبي «النّداء» و«النّهضة» على «قانون المصالحة الإدارية» الذي يوقف جميع التتبعات ضدّ المسؤولين عن الفساد زمن بن علي.

وطيلة ذلك الأسبوع الذي سقطت فيه الأقنعة، لم يتصرّف الباجي قايد السبسي بهذه الطريقة إلاّ لأنّه يعوّل على تواطؤ راشد الغنّوشي وحزبه الّلذيْنِ ساندا جميع مبادراته، بما في ذلك تلك التي تخدم الأقارب والتوريث.
لقد تعاقد الرّجلان، منذ سنوات، على المناورة. ولئن اكتفيا إلى حدّ الآن، بالعمل على خدمة مصالحهما عن طريق المخاتلة والتخفّي لوأد الثورة، فإنّ نواياهما أصبحت مكشوفة لا مراء فيها ولا شُبهة عليها. وهو تحوّلٌ له تداعياتٌ سياسية بالغة الأهمية، إذ يساعد على تحديد خصومنا، بكلّ وضوح، وهم الذين يتجسَّدون اليوم في طرفيْ التحالف القائم بين النداء والنهضة بقيادة الباجي قايد السبسي وراشد الغنّوشي.
وعليه، لم يبقَ مجالٌ للأوهام، ولم يَعُدْ لنا من سبيل غير الالتقاء والاتحاد للتصدّي لمشروعهما الرّجعي. إنّ واجب المقاومة ليس مقتصِراً على أحزاب المعارضة َ، بل هو مُلْقى على عاتق جميع التونسيات والتونسيين الحريصين على بلدهم، والمتشبثين بحرياتهم التي دفعت أجيال من الشباب دماءها الغالية ثمنا لها.
إنّ هجوم سبتمبر الرجعي، يُشَنّ تحت قيادة رجلين وحزبين تحكمهما علاقات الريبة وانعدام الثقة المتبادلة، لذلك فهو هجوم مشحون بالألغام، ولكنّه لن يسقُطَ من تلقاء نفسه بل يجب مُواجهتُه بمُخطّط مدروس واستراتيجيّة مُحكمة قوامُها:
* حملة إعلاميّة على أوسع نطاق ممكن لكشف خطورة الأهداف التي يرمي إليها الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي. وفي هذا المجال، فإنّ سحب ترشيح حافظ قائد السبسي لعضوية البرلمان نتيجة الاحتجاجات ضدّه، يعتبر أوّل انتصار على طريق هذه المعركة.
* إدانة رأسيْ هذه المنظومة: قائد السبسي و«نداء تونس» من ناحية، والغنوشي و«حركة النهضة» من ناحية ثانية. لأنّ استهداف قائد السبسي وحده يخدم مصلحة النهضويين بينما استهداف الغنوشي وحده سيصبّ في مصلحة «نداء تونس» و«التجمع الدستوري» الذي يتستّر وراءه.
* توحيد الممارسة النضالية على أوسع نطاق مُمكن لتشمل جميع القوى السياسية، والنقابية، والجمعياتية، والثقافية، والإبداعية، والنّسوية، والشبابية وكلّ قوى المجتمع المدني. فجميعُ القوى الخارجة عن تحالف القطبين والتي وَقفت وما زالت سُدّاً مَنيعاً، ضدّ الإرهاب رافضةً بشكل مَبدئيٍّ وقطعيّ كلّ تبرير أو تبييض له، مَدْعُوّة اليوم للمشاركة في هذه المعركة، وتجاوز خلافات الماضي. فخَصْمُنا اليوم مكشوفٌ وعلى جميع القوى المناهضة له أن تعود إلى الحوار في ما بينها حتى تتعزّزَ الثقة المتبادلة بين الجميع وتتوفّرَ شروط اللقاء وتنفتحَ آفاقُ العمل الموحّد.
* خوض المعركة ضدّ الفساد، وهي معركة تخوضها اليوم عديدُ الهياكل، المؤسساتية منها والجمعياتية. وليس المطلوب إلاّ دعم عملها والالتحاق بها والتعريف بأنشطتها، ومُساعدتها على الانتشار جهويا ومحليا. فالفساد الذي يدمّر الاقتصاد الوطني هو أيضا نقطة ضعف الائتلاف الحاكم، ولا بُدّ من تعزيز نضالنا على هذا الصعيد دون هوادة.
* النضّال من أجل الحفاظ على كلّ شبر من مساحات الحرية المكتسبة بعد 2011. فالائتلاف الحاكم يعمل على تضييق هذه المساحات قبل القضاء عليها حتى يتسنى له تنفيذ سياساته. أمّا نحن، فعلى العكس نحتاج إلى حماية هذه المساحات وتعزيزها من أجل تحقيق مشاريعنا.
* الحرص على ربط الصلات بين مختلف التحركات النضالية سواء دفاعاً عن الحريات أو لأجل مطالب اقتصادية. فمثل هذا الالتحام يمنح النضال الاجتماعي بُعدَه الوطني الذي ما يزال منقوصاً، ويضفي على النضال السياسي عمقا جماهيريا ما زال هو الآخر غائباً.
* التعبئة على نطاق واسع من أجل فرض موعد للانتخابات البلدية في الثلاثية الأولى لسنة 2018، ودخول الحملة الانتخابية بقائمات مواطنيّة موحّدة كشرط ضروري للنجاح.
هذه المقترحات ليست برنامجاً حزبياً، بل هي نداء لكلّ التونسيات والتونسيين، دون تمييز أو إقصاء. وفي التعريف بهذا البرنامج والتوقيع عليه بأعداد كبيرة، يتأكّد وجود تيار مواطنيّ قويّ متأهّب، يرسل تحذيراً شديداً إلى السلطة القائمة، ويقطع الطريق على مشروعها الهادف إلى تصفية الثورة واستحقاقاتها بشكل نهائيّ.
لن نسمح لهم بأنْ يسرقوا منّا حرياتنا
لن نترك لهم الفرصة ليَختلسوا الثورة منّا
ولن نُمكّنهم أبداً من السّطو على بلادنا ورهن مستقبلها