في 26 شباط 2016، أقرّ المجلس البلدي لمدينة بيروت عقداً بالتراضي مع مكتب المهندس عبد الواحد شهاب، للقيام بأعمال الدراسات والتصاميم وإعداد ملف تلزيم مشروع إنشاء سوق الخضار والفاكهة بالمفرق، والإشراف على أعمال التنفيذ. ولأن التلزيم بالتراضي هو أكثر الأعمال إثارة للشبهات، فقد أدّى إلى إنتاج دفتر شروط «مشبوه» تحيط به علامات استفهام كثيرة.
إذ اشترط على الشركات الراغبة بالتقدم الى المناقصة تقديم «إفادة خبرة» تثبت تنفيذها أعمالاً مماثلة (إنشاء مبانٍ) في القطاع العام بقيمة 20 مليون دولار. «وهو شرطٌ واضحة أهدافه. إذ لم يسبق أن حُصرت الخبرة بالأعمال المنفذة في القطاع العام، كما أن مشاريع المباني في القطاع العام بقيمة 20 مليون دولار محدودة جداً. بكلام أوضح: هذا الشرط لا ينطبق إلا على شركات معيّنة»، بحسب أحد المتعهدين. وأوضح أن «التلزيمات في بلدية بيروت تعتريها الشوائب. والنتائج، في معظمها، تكون لمصلحة فريق واحد ممثلاً بمتعهد معروف».
أدى «شرط الخبرة» الى خرق نقابة المقاولين والشركات المعترضة سلوك التحفّظ والالتزام بالأعراف السوقية بعدم الطعن في شركات منافسة. وبحسب نقيب المقاولين مارون الحلو «قدّمت ست شركات، من الأكبر في لبنان، كتاب اعتراض إلى محافظ بيروت زياد شبيب على الشروط غير الموضوعية الواردة في دفتر الشروط، والتي أدّت إلى حصر المناقصة ببعض الشركات، واستبعدت شركات لديها القدرة على المنافسة لأنها لم تنفذ أعمالاً في القطاع العام».

شرط «الخبرة»
للتقدم إلى المزايدة ينطبق على عدد محدود من الشركات

ووقّعت الاعتراض شركات: «أبنية» (مروان الحلو)، «مان» (ميشال أبي نادر)، «معوّض ــ إدّة» (جورج معوض)، «شركة الإنشاءات العربية» (ACC/ غسان المرعبي)، «حورية» (رمزي سلمان)، «متّى للانشاءات» (جاك متّى).
وبعد إطلاعه من نقابة المقاولين على «فضيحة» دفتر الشروط، تحوّل وزير شؤون مكافحة الفساد نقولا تويني إلى طرف في القضية، وقدّم بدوره اعتراضاً أمام محافظ بيروت طالباً وقف التلزيم لإجراء تعديلات على دفتر الشروط بهدف توسيع المنافسة التي تفيد في خفض الأسعار.
الاعتراض على «شرط الخبرة» لم ينحصر في الشركات وحدها. فلدى عرض دفتر الشروط على مجلس بلدية بيروت، أبدى خمسة أعضاء (غابي فرنيني، مغير سنجابي، إيلي يحشوش، راغب حدّاد، إيلي أندريا) اعتراضهم أيضاً «لأن اشتراط إفادة خبرة بقيمة 20 مليون دولار لأشغال مبان منفذة في القطاع العام حصراً أمر مريب» بحسب أحدهم. أضف الى ذلك أن هناك «مشكلة واضحة في تقديرات الشركة الاستشارية لكلفة هذا المشروع بنحو 42.8 مليار ليرة. إذ يبدو أن هناك مبالغة في تقدير كلفة الأعمال لمشروع بحجم سوق للخضر والفاكهة، يتضمن إنشاءات متواضعة».
نجحت الاعتراضات في تجميد الملف وعدم بتّه في المجلس البلدي. إلا أن تدخلاً مباشراً من رئيس الحكومة سعد الحريري، بعد عودته من السعودية مباشرة، فتح الباب أمام إقراره وإجراء المناقصة. وبحسب مصادر مطلعة، أجرى الحريري اتصالاً برئيس بلدية بيروت جمال عيتاني وأبلغه رغبته بالسير في الملف بسرعة.
ويتبيّن من محضر التلزيم المؤقت الصادر عن لجنة التلزيم البلدية برئاسة عيتاني، أن ثلاثة عارضين اشتركوا في المناقصة هم: «هايكون» (عماد الخطيب)، «مؤسسة حمود» (قاسم حمود)، و«الجهاد للتجارة» (جهاد العرب). الأولى قدّمت عرضاً بقيمة 46.5 مليار ليرة، والثانية بقيمة 51.3 مليار ليرة، فيما بلغت قيمة عرض الثالثة 44.1 مليار ليرة. وقد أرست لجنة التلزيم المناقصة على «شركة الجهاد» مؤقتاً، على أن تكون الموافقة نهائية بعد الاستحصال على موافقة ديوان المحاسبة المسبقة على الملف. علماً أن تدخّل رئيس الحكومة كان له وقعه على المحافظ الذي مهّد لموافقة ديوان المحاسبة على الملف بالاستناد إلى «العجلة الطارئة».
اللافت في العروض الثلاثة أنها كلها جاءت أعلى من تقديرات الاستشاري. «لذلك قرّر ديوان المحاسبة أن يدقق في الأسعار، وقد كلفنا أحد المدققين بالأمر فيما نقوم بالاستماع إلى اعتراضات ثلاثة أعضاء في مجلس البلدية» بحسب رئيس ديوان المحاسبة أحمد حمدان، نافياً أن تكون هناك ضغوط على الديوان لتمرير الصفقة، «فقد استمعنا إلى وجهة نظر رئيس البلدية جمال عيتاني ومستعدون أن نستمع إلى كل المعترضين، علماً بأنه لم تصلنا إلا اعتراضات أعضاء البلدية».
الى ذلك، تشير مصادر إلى اعتراضات سياسية أيضاً على الملف. وتلفت الى أن اعتراض بعض أعضاء المجلس البلدي المحسوبين على النائب ميشال فرعون سببها رغبة الأخير في أن «يكون للمسيحيين سوق للخضر في منطقة سن الفيل مماثلة للسوق التي تبنيها البلدية على سبعة عقارات ضخمة»!
من جهته، أكّد المقاول جهاد العرب لـ«الأخبار» أن لا علاقة له بوضع دفتر الشروط، لافتاً الى أنه نفذ قصر أعمال قصر عدل طرابلس وتمكّن من الاستحصال على «إفادة خبرة» تلبي الشروط المطلوبة في مناقصة سوق الخضر في بيروت. واعتبر أن «بند الخبرة أمر ضروري للتثبت من القيام بالأعمال، وتقديم إفادة خبرة بقيمة 20 مليون دولار لأشغال مماثلة في القطاع العام ليس أمراً غير طبيعي. فالمتعارف عليه، في القطاع الخاص، أنه ليس هناك أي جهة يمكن أن تقدّم إفادات خبرة دقيقة وواضحة وحقيقية. وقد شهد السوق إفادات خبرة صادرة عن جهات غير معروفة وبعضها عن أشغال منفذة في أفريقيا وفي مناطق لا يمكن الدولة التثبت من صحتها».
لكن مصادر المقاولين المعترضين ترد بالإشارة إلى أن مناقصة سجن مجدليا التي أطلقها مجلس الإنماء والإعمار، وشاركت فيها مجموعة واسعة من الشركات الكبرى، لم ينص دفتر شروطها على تنفيذ مشاريع محصورة في القطاع العام. كما أن المجلس يطلق مناقصات كبيرة غالبيتها تحت إشراف المانحين والصناديق التي تفرض شروطاً مماثلة، «لكن هذه الشروط لم تصل أبداً إلى حد حصر إفادة الخبرة بالقطاع العام».