قد لا يعرف الكثيرون أنّ الشّاعر مصطفى سبيتي ظلّ في السّجن ولم يخرج منه حتّى الأسبوع الماضي، وذلك كلّه بسبب سطرين كتبهما على «فايسبوك». رجلٌ مسنٌّ في عمر والدي، لا علاقة له بعالم السياسة وكلّ الشّرّ الذي يحيط بنا، يُزجّ به في الاعتقال بسبب سطورٍ مرسلة. وسبيتي هنا، حتّى تفهموا السّياق، لم يكن يحاول لعب دور كوبرنيكوس الذي يتحدّى بعنف، ويصرّ على استفزاز السلطات الدينية وإغضابها، بل هو اعتذر فوراً وسحب كلامه، وأعلن ندمه والتّوبة؛ ومع ذلك تمّ اعتقاله، كنوعٍ من التشفّي والعقاب لا أكثر، وأُبقي في السّجن طوال هذه المدّة.
هذا كلّه جرى وسط حملةٍ من الصّمت والتواطؤ، وتهليل الكثيرين. فأسوأ ما تفعله السّلطة حين تمارس مثل هذه الأفعال هو أنّها تفتح الباب ليطالب أي كان بسجن من لا يعجبه رأيه، ويصبح تقرير مصير النّاس وحرّيّتهم في يد الكهنة والرّعاع («الرّعاع» هنا تأتي كما عرّفها هادي العلوي، وهم ليسوا عامّة النّاس، بل فئة محدّدة، منظّمة غالباً، مستعدّة للانسياق خلف أي طرحٍ عنفيٍّ أو شعبوي، وتكون غالباً أداة شغبٍ وقمعٍ وتحريض في يد سلطات المجتمع).
يبدو أنّ العديد ممّن تناولوا قضية سبيتي أو تجاهلوها، لا يفهمون الفارق (ولو بالمعنى الليبرالي أو الحقوقي البدائي) بين أن تكره قولاً ما، أو تعتبره مهيناً، وبين أن تضع الأصفاد في يد انسان وتحتجز حرّيّته؛ وأنّ هذه ليست عتبةً بسيطة، وليس من النبيل لمواطنٍ أن يقوم بتوزيع أحكام السّجن على النّاس بسبب نصٍّ أو تجديف وأنّنا، لو سرنا في هذا الطّريق، فلا أحد يعرف نهايته: هل اعتقال سبيتي مبرّر لأنّ ما قاله تجديف على الدّين؟ هل يجب اذاً اعتقال كلّ من يجدّف على فايسبوك؟ هل هناك «حدودٌ» تجعل بعض التجديف «مغالياً» أو «بذيئاً» يستدعي الاعتقال؟ ومن يقرّرها؟ بالنّسبة اليّ، مثلاً، كثيرٌ مما ترونه على «فايسبوك» في لبنان أكثر سوءاً وانحطاطاً وقذارةً بمراحل من أيّ شيءٍ يمكن أن يقوله سبيتي يوماً ومن أيّ زاوية (سياسية، أخلاقيّة، انسانية، جماليّة) ويكون لأصحابها شعبية ويصبحون قادة رأي. وهذا كلّه الى جانب من استخدم قضيّة احتجاز رجلٍ مسنّ للسخرية أو اطلاق النكات او استعراض السماجة (أو «تقييم» المستوى الشعري لسبيتي، كأنّ لذوقكم الأدبي دخلاً في المسألة، وكلّ ما أتمناه من هؤلاء يوماً، لو دخلت السجن، هو أن يصمتوا أو أن يؤيدوا اعتقالي باقتضاب ــــ بدلاً من «تقييم» المستوى الأدبي في المقال وما ان كان يستدعي السّجن).
عودة الى هادي العلوي، فهو يشرح لنا في حديثه عن مقتل الحلّاج أنّ قضايا «الرأي» والعقيدة قلّما تكون كذلك في العمق، ومن النادر في تاريخنا أن تقتل شخصية أو تعتقل بسبب «التجديف» أو لأسباب عقديّة بحت (ولو زعمت ذلك السلطات وكتب التاريخ)، فهناك دوماً سياقٌ سياسيّ، ولعبة نفوذٍ ومصالح، تشرح هذه الأفعال ودوافعها. قبل فترةٍ قصيرة، تمّ استدعاء الزميل ايلي حنّا لـ«الاستجواب»، وسط حملة تحريضٍ من اليمين اللبناني، لأنّه أجرى مقابلةً صحافية مع حبيب الشرتوني (حاولوا أن تبحثوا عن «الجناية» هنا). وقبل ايام، وجّه وزير العدل القضاء اللبناني لكي يلاحق أسعد ابو خليل بسبب تغريدةٍ على تويتر، طالب فيها بنزع سلاح الجيش اللبناني (وهو اقتراحٌ لا يخلو من وجاهة، وسنعود اليه في الأسفل). السياسة ليست فقط ما يسمح بحدوث هذه التعقّبات، بل ما يسمح بمرورها في صمتٍ، ومن دون «حفلة» تضامنٍ إعلاميّة كالّتي تقيمها الشلل في لبنان، دورياً، لأنّ أحداً قد شتم زميلهم على «فايسبوك»، أو واجه زميلٌ لهم موجة اعتراضٍ واحتجاج، أو حصلت مشكلة بينه وبين رؤسائه، وهذه الحملات دوماً تجري ــــ للمفارقة ــــ تحت شعار «حرية الرأي». لهذه الأسباب، الى هؤلاء، والى من أيّد سجن سبيتي أو تواطأ او سخر، فأنا ــ مع أني لا أعرف سبيتي مطلقاً ولم أسمع به حتى الحادثة ــ أنحاز الى الشاعر السجين ضدّكم جميعاً، ولو كان هناك ما يجب أن يُقال حول «حرية التعبير»، فإنّ هذه القضايا هي الشيء الوحيد الذي يستحق الكتابة عنه، لا دفاعاً عن حريّة التعبير بل لأنّ هذه الحالات تكشف، اكثر من أي شيء آخر، حقيقة لبنان ومجتمعه.


لبنان وصناعة المعايير

لا أحد ينطلق من ادّعاءات حول حرية التعبير باعتبار أنّها مطلقة (حتّى بالمعنى السّالب لـ«الحرية»، أي أن تساوي حرية التعبير عدم القمع فحسب، ولا نلتفت الى الآراء التي لا تجد منبراً أصلاً، أو تلك التي تهمّش بوسائل أخرى، الخ). في أميركا مثلاً، حيث حرية التعبير هي ــ نظريّاً ــ مطلقة، ومضمونة كحقٍ دستوري، توجد استثناءات. كما تشرح الفيلسوفة جوديث بتلر في نقاشها لموضوع مجيء اليميني المتطرّف ميلو يانّوبولس الى جامعة بيركلي، وما إن كان يجب السّماح بالمحاضرة أو منعها، فإنّ القانون الأميركي يعتبر أشكالاً مختلفة من التّعبير، كالتهديد الشخصي أو التحريض على العنف، ممنوعةً وغير محميّة دستورياً. كما تقول بتلر، فإنّ هذه الاستثناءات لا يعتبرها القانون «أفعالاً تعبيرية» بل فعلاً جرمياً لا يدخل تحت حماية «التعديل الأول» في الدستور. في دولٍ أخرى، تعلي ايضاً من شأن حرية التعبير، فإنّ السياق التاريخي والسياسي أدى الى منع أشكالٍ مختلفة من الخطاب تحت حججٍ متعدّدة (خطاب الكراهية مثلاً، أو الكلام العنصري، أو مراجعة الهولوكست في بعض دول اوروبا؛ وفي بلادنا، نظراً الى التجربة التاريخية، من الطبيعي أن يمتد هذا المنع الى خطاب التحريض الطائفي، مثلاً).
الفكرة أنّ هناك مقاييس وإمكانات متعددة لمقاربة الموضوع والمحاججة فيه، ولكنّ الفريد في لبنان هو أنّه بلدٌ تقوم فيه نخبةٌ صغيرة باستمرار بخلق المعايير على هواها؛ بمعنى آخر، «حرية التعبير» عند اللبناني هي غالباً تساوي رأيه والرأي الذي يتوافق معه. هم يقرّرون ما يستحقّ الحماية وما لا يستحقّ، وما هو «فضيحة» وما هو مقبول، و«حرية التعبير» عندهم، غالباً، تعني أن لا يتعرضوا الى الانتقاد أو يخالفهم أحد (جدياً، راقبوا مقابلات نجوم الإعلام مؤخراً، هم يشتكون باستمرار ومظلومية حقيقية من أن «أحداً ما» قد شتمهم على «فايسبوك»، ويعتبرون أن ذلك يجعلهم ضحايا وأحراراً يواجهون قمعاً ــ ما معنى أن تكون نجماً تلفزيونياً أو شخصية عامّة ولا يجري شتمك من البعض، حتى لو كنت نزيهاً ومخلصاً، والحال غالباً غير ذلك؟). عملية «خلق المعايير» هذه، وبناء التوافق حولها، لا تنتهي ولا تعرف حدوداً في مجتمعٍ ضيّق تحكمه الهيمنة والمصالح. لا تستغربوا، فنحن في بلدٍ يشعر فيه الكاتب بالثقة الى درجة أن يبوح في مقابلة، ببساطة، أنّه يختار أن يصمت ويخفي رأيه في مواضيع كثيرة بسبب مموّليه (ماذا يتبقّى من المثقف حين يعترف بأنّه لا يقول كلّ ما يؤمن به ولا يملك النزاهة الفكرية؛ وكيف يمكن لنا أن نعرف، حين نقرأه، إن كان يقول الصّدق هنا، أو هو يخوض مواضيع تلامس «المحرّم»، الذي يبقيه «في الدرج»؟).

أن تحمي نفسك من الأقوياء

أمّا تغريدة أسعد ابو خليل، فهي الحالة الأكثر طرافة، وانت لا تحتاج الى محامٍ لكي تعرف أنّ لا شيء في ما قاله أسعد يمكن أن يوضع تحت خانة التحريض أو التحقير أو الفتنة، الّا لأنّ الإعلام اليميني قد قرّر ذلك، وانساق وزيرٌ خلفه. احتجّ ابو خليل على اجتماع ضباط من الجيش مع ضباط اسرائيليين فيما قضية القدس تشتعل (كما يحتجّ أيّ ناشطٍ على القوى الأمنية حين تقوم بفعلٍ خاطئ، أو تتجاوز، أو تضرب متظاهرين) ودعا الى المطالبة بنزع سلاح الجّيش وترك المقاومة وحدها للدفاع عن لبنان. هذا ما أغضب الإعلام (الذي يطالب بسجن الاعلاميين ويلاحق كلامهم على وسائل التواصل) على ما يبدو، وهو ما لا أفهمه. نزع سلاح الجيش هو مجرّد اقتراح، لا شيء يعيب نقاشه، وأنا شخصيّاً لا مشكلة لدي في الإبقاء على سلاح الجيش، فحواماته وطائراته حين تحلّق في تشكيلاتٍ، بخاصّة قبيل العروض العسكرية والمناسبات الوطنية، تمرّ على ارتفاعٍ منخفض فوق منزلي تماماً، حيث تنعطف وتغيّر مسارها، فتؤلّف منظراً بديعاً. من جهةٍ أخرى، فإنّ عمر بعض هذه الحوامات يزيد على أربعين سنة وهي تمرّ، كما أسلفت، مباشرةً فوق منزلي. الخلاصة هي أنني على الحياد، لا مانع لدي في أن تطالب بنزع سلاح الجيش وتحويله الى قوى أمن داخلي وخدمة مدنية، وبين أن تصرّ على الحفاظ على سلاحه كاملاً، من الرشّاش الى الـ«سيسنا»، ولكني لا أفهم اين الجريمة هنا.
القصد هو أنّ الحملة هنا لا علاقة لها بما قاله أسعد أو بادّعاء الدّفاع عن الجيش والحرص عليه، بل لها سياقٌ سياسي، هي ما يجمعها بالحملة ضد سبيتي أو ايلي حنا. هؤلاء الأفراد، ببساطة، لم يربطوا أنفسهم بأحزابٍ وسلطةٍ ومال، ولا طوائف تدافع عنهم وتعتبرهم من أبنائها، وليسوا جزءاً من شبكات الشللية والترويج المتبادل والصداقات المصطنعة في لبنان. في الحقيقة، كنت دائماً أحذّر أسعد من أنّ سياسته في الكتابة سوف توصله الى هنا. لا يمكنك أن تكتب مقالاً اسبوعياً، تنتقد في كلٍّ منه أو تهاجم أو تسخر من ثلاث أو أربع شخصيات سياسية واعلامية. وهذا في بلد صغير، يعرف الجميع فيه الجميع، وأناس غير معتادين على النقد والتسمية، والعلاقات الشخصية فيه أهمّ من السياسة والمبادىء (والمادة والوظائف أهمّ من العلاقات الشخصية، التراتبية واضحة للجميع). هكذا، انت ستجمع في فترة قصيرة كلّ النّاس ضدّك، يميناً ويساراً، وسيتكتلون عليك ويتحينون سقطاتك، وبخاصّة أولئك الذين يتجرأون على أمثال ابو خليل ويتزلّفون لأي شخصٍ تفوح منه رائحة سلطة أو مصلحة أو انتماء حزبي ــ ولو على «فايسبوك». هذه ليست مشكلة في الحقيقة، بل مديح؛ فتعريفي للكاتب الجيد هو أن يسعى للوصول الى مرحلة لا يروّج فيها له ولا يقرأه أحدٌ من الصحافيين والسياسيين والكوادر، أو من يتّصل معه بعلاقة مهنة أو مصلحة أو تنافس، بل المفضّل أن يكرهوه ويخافوه، ويكون جمهوره حصراً من «الناس العاديين» خارج الوسط الضيّق (أي بعكس الصورة المعتادة للصحافي في لبنان).
ولكن، يا معالي الوزير، ما كلّ النّاس تهاب السلطة ويحرّكها الطموح والتزلّف. نحن لا يمكن لنا أن نلوم الإعلام الظلامي ومن خلفه حين يحرّض، فهذه وظيفته، ولكنّ مشكلتنا هي مع السياسي حين ينساق خلفهم، وهذا تحديداً ما ينزع عن الخادم العام شرعيّته. هناك الكثيرون مثلنا ممن لا يملكون طموحاً ولا يودّون الانضمام الى النادي، وانت أمامك حياةٌ سياسيّة طويلة وطموح، وفرصٌ كثيرة لكي نعدّل الحساب (قاعدتي في الحياة في هذه الأمور هي أنّه، لو اعتدى أحدهم عليك وأجبرك على المواجهة، عليك أن تضمن أن تكلّفه ــ بطريقة أو بأخرى ــ أضعاف ما كلّفك في عدوانه، ومن دون ذلك لا تكون «عدالة» ولو حكمت لصالحك كلّ محاكم الأرض). نحن قد لا نملك سلطةً ونفوذاً، ولكننا نعرف كيف ندافع عن أنفسنا، وأقلامنا مسنونة، ولدينا ذاكرة لا تنسى من كان خسيساً معنا، وانحاز ضدّنا مع دعاة القمع والفاشية.