السنة الماضية، خصّصنا مقالنا الرئيسي في هذه الصفحة للموسيقى الكلاسيكية، وتحديداً لموزار. وكانت المناسبة الإصدار (الجديد) لمجمل أعماله. هذه السنة، نقترح عليكم أن تهدوا أحباءكم كل تسجيلات هربرت فون كارايان التي صدرت حديثاً (أضخم إصدار في تاريخ الموسيقى ــ 356 أسطوانة، بينها 330 CD و24 DVD وblue ray — audio عدد 2)، ونحن على يقين بأنّ قلة قليلة جداً ستفعل ذلك.
غير أنَّ مجرّد اقتراحه قد يدفعكم للتفتيش عن اسم كارايان على الإنترنت ومشاهدة بعض حفلاته المصوّرة على يوتيوب، وبالتالي قد يشغلكم هذا الاقتراح عن متابعة نشاطات نجوم الأغنية الفارغة، ولو لساعة.
إذاً، بعد ضمّ كاتالوغ Decca إلى كنوز الناشر الألماني «دويتشيه غراموفون»، جمع الأخير تسجيلات أسطورة قيادة الأوركسترا في القرن العشرين، المايسترو النمساوي هربرت فون كارايان (1908 ــ 1989/ الصورة)، وأصدرها في علبة واحدة، وبكمية محدودة هي 2500 نسخة مرقّمة. عاش كارايان أكثر من ثمانين عاماً، وشاء القدر أن يتزامن الجزء الأهم منها (لناحية الخبرة والشهرة والنضوج) مع العصر الذهبي للتسجيل. أضف أنّ الرجل كان فائق النشاط. إنّه جبل. لا يتعب. يملك طاقة هائلة، تغذّيها الموسيقى، أو الصوت الخارج من أوركسترا باتجاهه. حصّة الأسد من تسجيلاته ذهبت لـ «دويتشيه غراموفون»، من بعدها Decca، علماً بأنّه سجّل أيضاً لصالح EMI في بداياته و«سوني» في السنوات الأخيرة من مسيرته. لكن، حتى من دون تسجيلات كارايان عند الشركتَين الأخيرتَين، كسر الإصدار الجديد الرقم القياسي، وبات الأضخم في تاريخ الموسيقى لغاية اليوم. هذه الضخامة على المستوى الكمّي، يمكن تحديدها بالأرقام. لكن ما لا يمكن تحديده هو القيمة الجمالية لهذه العلبة التي بلغ وزنها نحو 14.6 كيلوغرام من المواد الشديدة الجمال. لسنا هنا بصدد التعريف بالقائد الذي قدّم واحداً من أهم الإنجازات الفنية للبشرية. فكثيرون يعرفونه جيداً، ومن لا يعرفه يمكنه مراجعة وثائقيات وكتابات كثيرة تناولت شخصه وحياته وفنّه، منذ مرحلة ما قبل النازية في ألمانيا، مروراً بوصول هتلر إلى الحكم وانتساب كارايان إلى حزبه، وحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية إذ أُعتق، بعد سنتين من انتهائها، من تهمة النازية، وصولاً إلى الفترة الأجمل من حياته، تلك التي بدأت مع تعيينه قائداً أبدياً لـ «أوركسترا برلين الفلهارمونية» عام 1955.
من باخ إلى النصف الأوّل من القرن العشرين، يصعب أن تجد مؤلفاً «نجا» من عصا كارايان. لكن حجر الرحى في تركَته يبقى بيتهوفن الذي شكّلت سمفونياته وافتتاحياته الهاجس الأكبر لعاشق الكمال، إضافة إلى المؤلف الألماني فاغنر الذي عُرِف قائدنا بميله العميق لأعماله الأوبرالية الجرمانية الهوى، كما للأوبرا عموماً.
يقول كارايان: «أؤمن بالولادة من جديد… وسأعود حتماً». من قال إنّك رحلت يا مايسترو؟