يمثّل القرار الأخير للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حول القدس، ضربة قوية هزّت الركائز الرئيسية الثلاث التي تدعم مشروع تسوية الصراع العربي ــ الإسرائيلي بإقامة دولة فلسطينية في إطار «حل الدولتين» الذي صدّعت أطرافه رؤوسنا به، وهي: سلطة الوكيل الأمني للاحتلال في رام الله، والاتحاد الأوروبي، والدول العربية.
الخاسر الأكبر الذي يرفض الاعتراف بذلك، هو رئيس السلطة محمود عباس (أبو مازن) الذي جرّده البيت الأبيض من ملابسه الإمبراطورية ليتحرك في الداخل والخارجي عارياً، فيما يصرّ على أن مشروع التسوية المسمى زوراً «عملية السلام» لم يمت، وأن من فقد مقعده فيها هو الراعي الأميركي، على أمل أن يجد راعياً آخر يبقي على أمله في دولة فلسطينية قابلة للحياة لم يتوقف عن التبشير بها منذ أتى به ياسر عرفات في أوائل عام 1968 ليعينه عضواً في لجنة حركة «فتح» المركزية.
الدول العربية التي افترض أبو مازن أنها المفتاح لاستراتيجية مشروع الدولة الفلسطينية منذ تبنيها مبادرة عبد الله بن عبد العزيز للصلح والاعتراف بالكيان واعتبرتها تلك الدول إطاراً إقليمياً للسلام قد سحب منها ترامب قضيتها الأولى، القدس، ومنحها للكيان، بل هدد من يرفض خطوته بالويل والثبور وعظائم الأمور، أقلها المعونة الأميركية، سواء المالية والاقتصادية، أو حتى العسكرية. وأقصى ما قدمته المجموعة العربية هو مشروع القرار المصري في مجلس الأمن لإلغاء أي تغيير في وضعية القدس، مع علمها أن «الفيتو» الأميركي سيقتل مشروع القرار.
أما أوروبا التي تقوم دائماً بدور «الشرطي الجيد» مقابل «الشرطي الشرير» الذي يمثله البلطجي الأميركي، فلم تستطع حتى الآن أن تقدم نفسها بديلاً من الولايات المتحدة، إذ تجد نفسها في مأزق وهي تواصل الحديث عن مشروع التسوية وتأييد العملية السلمية وعن خطورة ضياع فرصة «حل الدولتين» بما قد يزيد فرص غياب الاستقرار في المنطقة وتحول الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية من مؤقت إلى نظام فصل عنصري دائم.
والآن، بعد مسيرة 24 عاماً من الرهان العبثي على مفاوضات حل الدولة الفلسطينية الذي جعل القضية تقف على رأسها، جاء قرار ترامب لكي تستعيد القضية حيويتها النضالية وتقف مجدداً على قدميها بفعل الكفاح الشعبي الذي امتد على كامل الأرض الفلسطينية بدعم شعبي عربي ودولي.
ماذا سيفعل أبو مازن؟ هل سيغيّر سلوكه ومشواره السياسي الذي بدأه (منذ التحاقه بـ«فتح») من فكرة «اختراق المجتمع الصهيوني» من أجل تصفيته إلى عقد اتفاقات أوسلو والتنصل من المقاومة المسلحة التي لم يكن طرفاً فيها؟ ما يعرف عنه أنه كان ملتصقاً بعرفات، لكن لم يعرف ــ بسبب غموض انتمائه ــ أن كانت له قواعد داخل التنظيم، فهو لم يكن عضواً في «القيادة العامة لقوات العاصفة»، ولا مسؤولاً عسكرياً في «الميليشيا»، وكذلك لم تكن له زيارات منتظمة للقواعد، ولم يكن لديه جهاز مؤثر مثل غيره من قيادات «فتح» الأولى، بل كانت مواقع أبو مازن تتعزز عقب كل عملية اغتيال يروح ضحيتها أحد قادة الحركة المعارضين لنهج التسوية بالشروط الإسرائيلية ـــ الأميركية. ففي نيسان 1981 أصبح عضواً في «اللجنة الاقتصادية لمنظمة التحرير»، وبعد اغتيال خليل الوزير (أبو جهاد) في نيسان 1988 صار مسؤولاً عن القطاع الغربي، فضلاً عمّا كان يعرف عنه من عدائه للمقاومة وضرورة وقفها والتخلي عن أسلحتها والتفاوض مع الحكومة الإسرائيلية.
الجواب قدمه عضو «اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير»، أحمد مجدلاني، الذي صرح لـ«إذاعة فلسطين» أمس، بأن السلطة «تريد تعديل مسار عملية السلام مع إسرائيل وليس الانسحاب منها إثر قرار ترامب»، وأن القيادة الفلسطينية طلبت رسمياً من كل فرنسا وروسيا والصين إيجاد آلية دولية متعددة الأطراف لرعاية عملية السلام. وأضاف مجدلاني بشأن اجتماع «المجلس المركزي» الفلسطيني الذي دعا إليه أبو مازن في منتصف كانون الثاني المقبل ونيته المراجعة الشاملة، أن «المطروح هو تغيير مسار العملية السياسية وليس الانسحاب منها، وكذلك تحديد العلاقة مع الاحتلال انطلاقاً من انتهاء المرحلة الانتقالية لاتفاق أوسلو».
مع ذلك، إن الرد على برنامج عباس قدمه المواطنون الفلسطينيون الذين يتصدون للاحتلال بصدورهم العارية التي تشير إلى اتجاه النضال الوحيد، بما يؤكد أن مشروع التسوية، الذي هو الاسم الحركي لمشروع تصفية القضية الوطنية الفلسطينية، قد مات ودفن، في حين أن دوامات الغضب الجماهيري في فلسطين المحتلة لا تتوقف عن التدفق لتتحول في الوقت المناسب إلى ثورة تعمل على دحر الاحتلال دون قيد أو شرط.