مع بداية الانجراف السعودي والإماراتي، وقبلهما القطري العلني، نحو مواقف وتصرفات تطبيعية علنية مع دولة العدو الصهيوني، تفاقمت إلى درجة التمهيد والتحريض باتجاه إقامة تحالف أمر واقع استراتيجي بين هذه الدول وبين إسرائيل. وتساوقاً مع ذلك، وفي غضونه، بدأت بعض أصوات الكتبة والإعلاميين و«المثقفين» في دول الجزيرة والخليج العربي تعلو وتتناغم في أدائها بعد أن ظل متلكئاً وخجولاً طوال عقود مضت.
إن هذه الظاهرة السوداء والخطيرة، أمست في حالة اتساع يكتسب أهمية خاصة هذه الأيام، ويثير ردود أفعال قوية في الدول ذاتها وفي عموم العالم العربي، لأنه يتناغم مع الارتماء الرسمي المتفاقم لدول الخليج وفي مقدمتها السعودية والإمارات وقطر والبحرين في الحضن الإسرائيلي. ولكنَّ هذه الظاهرة لا تعكس من ناحية أخرى حالةً أو نمطاً شعبياً بل هي حالات فردية معزولة، فشعب الكويت وغيره لا يختلف عن الشعوب العربية والإسلامية الأخرى في تعلقه بفلسطين وقضيتها العادلة.
أما الجديد الذي جاء به هذا النفر المتصهين في الخليج العربي على لسان الكاتب الكويتي عبد الله الهدلق، والذي لم يسبقه إليه متصهين «عربي» آخر، فهو استناده واحتجاجه بنصوص قرآنية لتأييد ما يسميه «حق بني إسرائيل في الأرض المقدسة»! وبمقدار ما يتصف به موقف الهدلق من صراحة مستفِزَّة، وأقرب إلى الصفاقة، فهو يتصف بجهل مطبق يشاركه فيه صحبه الآخرون بتفاصيل تاريخ بلاد فلسطين والشعوب التي عاشت ومرت بها قبل وبعد أن اكتسبت اسمها الخالد فلسطين. هنا، رد شامل وموثق على الترهات التي ساقها هذا الشخص. وسنجعل من هذا الرد مناسبة نتوقف فيها لاحقاً عند مرحلة مهمة من تاريخ فلسطين القديم، قبل وبعد ظهور هذا الاسم «فلسطين»، وعند المزاعم الصهيونية والخرافات التوراتية حول مملكتي يهودا وإسرائيل، متسائلين ومناقشين مع ذوي الاختصاص العلمي هل كانتا مملكتين يهوديتين وعبريتين أم إنهما كنعانيتان؟
في مناظرة تلفزيونية حوارية، ورداً على سؤال طرحه المذيع على الهدلق وقال فيه «ما هي إسرائيل؟ هل هي دولة أو جماعة أو منظمة إرهابية، كيان؟ كيف ممكن أن نفسرها؟» قال الهدلق، وسأنقل كلامه حرفياً كما ورد في تسجيل الفيديو «دولة إسرائيل - شئنا أم أبينا - هي دولة مستقلة وذات سيادة، لها وجود ولها مقعد في الأمم المتحدة. وأكثر الدول المحبة للسلام والديموقراطية تعترف بها. وبقيت مجموعة من دول الاستبداد والقمع لا تعترف بها. ومثال على ذلك كوريا الشمالية لا تعترف بإسرائيل. دولة إسرائيل تملك من المراكز العلمية والجامعات ما لا تملكه أعتى وأقدم الدول العربية. فدولة إسرائيل هي دولة مستقلة وشرعية أخذت شرعيتها من مكانتها في الأمم المتحدة. أما ما تفضل به أبو سيف (مشارك آخر في البرنامج) من أنها كيان غاصب فهذا الكلام مردود عليه دينياً وسياسياً. فدينياً، الآية القرآنية رقم 21 من سورة المائدة تثبت أن بني إسرائيل لهم الحق في الأرض المقدسة. يقرأ (قال الله تعالى: وإذ قال موسى لقومه يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم). إذن الله كتبها لهم، ولم يكونوا كياناً غاصباً لها. الكيان الغاصب هو الذي كان فيها قبل أن يدخلها بنو إسرائيل».
وحين يرد الضيف الذي لم يظهر اسمه في هذا الجزء من الفيديو على الهدلق قائلاً «هل قضية فلسطين واحتلال فلسطين، هل هي قضية عربية أو دينية؟» يقاطعه الهدلق قائلاً: «ليس هناك احتلال، هناك شعب عاد إلى أرضه الموعودة. هل تعرف أن تاريخ بني إسرائيل ضارب في القدم وتاريخ بني إسرائيل قبل الإسلام، وبالتالي يجب أن نعترف ونحن مسلمون، أن بني إسرائيل لهم الحق في هذه الأرض ولم يغتصبوها. الذين يقولون إنها مغتصبة، هم الذين ما زالوا يفكرون بعقلية 1950 وما قبل ذلك. وعندما أنشئت دولة إسرائيل سنة 1948 لم يكن هناك وجود لدولة اسمها دولة فلسطين». وهنا يسأله المذيع وكأنه صدَّق بما قاله «من أين إذن جئنا بهذا الاسم «فلسطين» ونحن ندافع عنه منذ أكثر من ستين عاماً؟).
يجيب الهدلق حرفياً «ليس لهم وجود، ليس له وجود أبداً... هم عبارة عن شتات متشتت في بعض الدول العربية وكانوا يسمون الكنعانيين أو العماليق أو لها أسماء متعددة جداً حتى أن الآية الكريمة قالت (إن فيها قوما جبارين) كانوا يسمون الجبارين».
حرصت على اقتباس هذه العبارات كما هي لا لأهيمتها وصحتها، بل لتبيان عدة أمور منها: أولاً، مقدار الصفاقة المستفِزَّة والجهل الفاضح لدى المتصهينين من خليجيين وعرب عموماً بفلسطين تاريخاً وجغرافيةً وقضية.
وثانياً، لاغتنام هذه المناسبة لتوضيح بعض الحقائق عن الروايات الدينية التوراتية وغير التوراتية حول الموضوع الفلسطيني وعن تاريخ فلسطين القديم.
وثالثا وأخيراً، محاولة تقديم قراءة مختصرة، وبما تسمح به المناسبة وحجم المقالة لهذا التاريخ، معتمداً بشكل أساسي على المنهجية العلمية التاريخية في الكتابات الحديثة التي تعتمد وتنتهج إنجازات وأساليب العلوم الحديثة كفقه اللغة المقارن «الفيلولوجيا» وعلم الآثار والتنقيب «الإركيولوجيا» وعلم الإناسة «الانثروبولوجيا» والتاريخ المقارن والتاريخ الاجتماعي وعلم الاجتماع التاريخي وعلوم التاريخ الحديثة الأخرى. وبتحديد أكثر، فسأعتمد وبشكل رئيسي مرجعاً محدداً هو الكتاب الثمين والحاسم - على صغر حجمه - في موضوع تاريخ فلسطين للباحث يوسف سامي اليوسف هو «تاريخ فلسطين عبر العصور». هذا المفصل الأخير من البحث سيكون موضوعاً لمقالة أخرى مستقلة قريباً. ولكن، قبل ذلك دعونا نتفحص دارسين الحجج القرآنية التي ساقها الهدلق وعموم الحجج الدينية وبخاصة التوراتية حول الموضوع.
معروف علمياً، أن الرواية التوراتية ليست بذات مصداقية علمية وتأريخية بشكل عام، وتحديداً تلك التي تؤرخ لأحداث ما قبل القرن التاسع قبل الميلاد، فقبل هذا التاريخ - وحتى بعده أحياناً - تعج التوراة بالخرافات والأكاذيب والتناقضات التي لا يمكن أن يصدقها عقل سليم كحكاية فك الحمار التي وردت في سِفر «القضاة 15/14-16». وخلاصتها أن شمشون تسلح بعظمة فك حمار وضرب بها الفلسطينيين خلال المعركة فقتل منهم ألف مقاتل... لنقرأ في التوراة: «فحلَّ - شمشون -الوثاق عن يديه، ووجد لحي حمار طرياً، فمد يده، وأخذه، وضرب به ألف رجل. فقال شمشون: بلحيِ حمار قتلتُ ألف رجل». وهناك تناقضات صارخة ولم يستطع أعتى الصهاينة أو غير الصهاينة تبريرها وتفسيرها وسأورد عدداً من هذه التناقضات لاحقاً.

الهدلق: دولة إسرائيل شئنا
أو أبينا هي دولة مستقلة
وذات سيادة

أما بخصوص الاستشهاد بالآية القرآنية، فمثله مثل الاستشهاد بأي نص ديني سماوي آخر خارج سياقه الحقيقي، مع الأخذ بنظر الاعتبار الأصل الإبراهيمي الواحد للديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام، وأن الإسلام رغم احترامه واعترافه بالأنبياء والرسالات السماوية التي سبقته، ينظر إلى الكتب السماوية الأخرى ككتب تم تحريفها لاحقاً. آخذين بنظر الاعتبار، أن النص القرآني هو أحدث هذه الكتب المقدسة زمناً، وأدقها من حيث المحتوى. فقد تم الحفاظ عليه، وحتى على الخلافات الصغيرة والبسيطة في لفظ بعض كلماتها في ما سمي القراءات السبع، وبهذا فهو الأكثر ثباتاً نصياً. وإذا ما ركزنا كلامنا حول هذه الآية «رقم 21» من سورة المائدة، التي ساقها الهدلق فيمكن أن نسجل النقاط المركزية التالية:
ـــ لقد اختلفت تفاسير القرآن القديمة الأكبر والأشهر حول المراد بعبارة «الأرض المقدسة» على عدة أقوال أهمها خمسة هي «قال مجاهد: هي الطور وما حوله - ويقع جبل الطور في صحراء سيناء وقربه دير القديسة كاترين. ع ل-، وقال الضحاك: هي إيلياء وبيت المقدس - وهما اسمان الأول روماني والثاني عربي إسلامي للقدس فقط دون فلسطين الجغرافية ع ل-، وقال عكرمة والسدي: هي أريحاء - وأريحا تقع شمال الضفة الغربية الفلسطينية ع ل -، وقال الكلبي: هي دمشق وفلسطين وبعض الأردن، ويروي الكلبي نفسه في موضع تفسيري آخر قائلاً: صعد إبراهيم عليه السلام جبل لبنان فقيل له: انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس وهو ميراث لذريتك. وقال قتادة مفسراً عبارة «الأرض المقدسة»: هي الشام كلها، وقال كعب: وجدت في كتاب الله المنزل أن الشام كنز الله في أرضه وبها أكثر عباده». وهناك المزيد من التفاسير ووجهات النظر التراثية حول الموضوع.
يمكن أن نسجل أيضاً النقاط التالية: إن الهدلق ومن يؤيده في قوله وتفسيره هذا، إنما يعطون الحق والشرعية كذباً ورياءً للحركة الصهيونية الرجعية في مزاعمها الخرافية المستندة إلى التوراة (التي يعتبرها المسلمون بدليل النص القرآني محرَّفة ومزورة، وليست هي الكتاب السماوي الذي أنزله الله على موسى)، ويؤيدونهم في زعمهم نيل «شعب إسرائيل» للحق الإلهي في الأرض الممتدة بين الفرات والنيل.
هذا الوعد المعلن، والمعبّر عنه في العلم الرسمي لدولة إسرائيل بالخطين الأزرقين «النيل والفرات» على الصفحة البيضاء ونجمة داود بينهما. علماً بأن هذا الشعب «الإسرائيلي» الذي تكلمت عنه التوراة، بحسب بعض الباحثين المتخصصين، قد «انقرض ولم يعد له وجود» بعبارة الباحث كمال صليبي. أو أنه -بعبارة أخرى مخففة- لا علاقة حقيقة له بيهود اليوم، وخصوصاً باليهود الاشكناز «اليهود الأوروبيين» الذين أقاموا دولة إسرائيل المفتعلة في عصرنا، وأرادوها ان تكون دولة يهودية عبرية (رغم أنهم لا يتكلمون اللغة العبرية بل لغة «الليدش Yiddish» وهي مزيج لهجوي من اللغات الألمانية ونسبتها 80% والفرنسية والإيطالية والروسية وقليل من العبرية والآرامية، وما تزال لغة معترفاً بها كلغة لليهود الاشكناز في بعض بلدان أوروبا كالسويد.
وحتى حين بعث الصهاينةُ اللغةَ العبرية حية بعد سنة 1948، وأخذوا بتعلمها وتدريسها، جاءت مختلفة عن اللغة العبرية التي يتكلم بها اليهود العرب المعاصرون (يهود الدول العربية واليهود الشرقيون عموماً «السفارديم»). فهؤلاء مثلاً يلفظون حرف الحاء، وهو حرف أصيل في اللغة العبرية ويكتب (ח) كما هو، أما الصهاينة الاشكناز الغربيون فيلفظونه خاء فيقولون: خماس أي حماس! وحرف الراء العبري (ר) يلفظونه كالراء الباريسية «غاء»، أما حرف العين العبري (ע) فيلفظونه همزة، أي كما يلفظ الأوروبيُّ حرف العين العربي أي أن الصهاينة في دولة إسرائيل غرباء حتى عن اللغة العبرية التي اختطفوها من تاريخها وملفوظها الحقيقي.
إن جعل الأساطير الدينية وغير الدينية تاريخاً فعلياً للبشر الماضين والحاضرين، وإسقاط مضامين النص الديني القديم لشعوب عاشت قبل آلاف السنوات، وحول جغرافيا سياسية تغيّرت جذرياً بعد آلاف السنوات على الحالة السياسية المعاصرة ليس أكثر من عبث قاتل ومدمر للشعوب والأوطان، وهو من الناحية العلمية هَبَل ما بعده هَبَل، وهذا ما يفعله دعاة الحركة الصهاينة وأذنابهم المروّجون لخرافاتهم ومزاعمهم من متصهينين عرب وغير عرب.
وإضافة إلى ما تقدم من التفاسير القديمة المشهورة، يمكن أن نفسر الآية «21» من سورة المائدة تفسيراً سياقياً مفرداتياً، فنقول الآتي: إن الذي تكلم هنا - حسب النص القرآني- هو النبي موسى، حين كان يقود بني إسرائيل في مرحلة تاريخية معينة، متجهين من مكان خارج «الأرض المقدسة» لا نعرفه، وقد يكون مصر أو غيرها، والنبي موسى يطلب منهم هنا أن يدخلوا هذه «الأرض المقدسة» غير المعروفة بالاسم، والتي اختلف المفسرون المسلمون الكبار حولها. ولكنَّ بني إسرائيل، كما تخبرنا الآية التالية «22»، والتي لم يقرأها الهدلق، جبنوا ورفضوا دخولها واحتجوا بأن فيها «قوما جبارين». أي أنها لم تكن أرضاً خالية، لا شعب فيها آنذاك. وقد اشترط بنو إسرائيل على النبي موسى، لكي يدخلوها، أنْ يخرج منها هؤلاء القوم الجبارون، والذين هم سكان الأرض الأصليون، والذين تؤكد العلوم الحديثة إنهم الكنعانيون بمختلف فروعهم.
فأين هو الحق الإلهي التاريخي هنا؟ وأين «الأرض المقدسة» التي اغتصبت من بني إسرائيل، والتي عادوا إليها بقرار إلهي كما يقول الهدلق؟ وعلى افتراض جدالي بصحة وجود وعد إلهي توراتي بالأرض بين الفرات والنيل قبل آلاف السنوات لبني إسرائيل، وللمؤمنين بهذا الوعد وبالتوراة وبإله بني إسرائيل، فما حجته على غير المؤمنين بالتوراة، وعلى المؤمنين بأنه كتاب سماوي محرَّف، وعلى الذين أصبحوا بموجب هذا الوعد ضحايا ولاجئين بسببه، يسكنون مخيمات اللجوء كالشعب الفلسطيني اليوم؟
السؤال التلخيصي هو: هل المقصود بالأرض المقدسة صحراء سيناء، أم مدينة القدس أم أريحا أم دمشق أم الشام كلها أم الأرض المحيطة بجبل لبنان على مدى ما كان يرى أبو الأنبياء إبراهيم؟ وإذا كان كبار مفسري القرآن قد اختلفوا قديماً حول معنى هذه العبارة، فكيف أجاز الهدلق لنفسه، وهو كاتب صحافي متواضع الإمكانات والجاهل في هذا الميدان بدليل تخليطاته الكثيرة، حسم الموضوع وقرر أن الأرض المقدسة الواردة في هذه الآية هي فلسطين؟
وإذا ما تذكرنا أن أغلب المفسرين والمحدثين والفقهاء المسلمين القدماء كانوا يستمدون آراءهم وقصصهم في كثير من أمور التاريخ القديم مما اصطلح عليه بالإسرائيليات، وهي التراث اليهودي الشفهي والمكتوب والمأخوذ مباشرة عن الأحبار اليهود وعن غيرهم، سنفهم منطقياً أن مصادر هذه الإسرائيليات أنفسهم أي أحبار اليهود لم يكونوا متفقين على رأي بخصوص عبارة «الأرض المقدسة»، بل أن الباحث يوسف سامي اليوسف يمر على رواية وردت في التوراة وتقول بأن الصراع بين فرعون مصر مرنبتاح وإسرائيل حدث في صحراء سيناء (ص 51 من كتاب «تاريخ فلسطين عبر العصور»)!
واضح جداً، أن هذه الآية القرآنية تروي لنا حادثة تاريخية محددة، ضمن ما يسمى بالقصص القرآني، وهي بكل تأكيد ليست مما يسميها الفقهاء «آيات الأحكام»، ليأتي الهدلق أو غيره وينصب نفسه حاكماً ويطالبنا بتطبيقها اليوم ولنتنازل بموجبها عن أرض فلسطين لعصابات من الاشكناز الغربيين الأوروبيين في غالبيتهم، والذين لا يربطهم أية رابطة حقيقية بالعبرية والعبريين وباليهودية كدين واليهود المؤمنين به من السفارديم، الذين كانوا يعيشون على امتداد العالم العربي من بغداد العراقية حتى الرباط المغربية على امتداد التاريخ.
ولدحض تخليطات الهدلق وصحبه دحضاً نهائياً، ثمة أسئلة أخرى في هذا السياق لا بد من طرحها ومنها: لماذا لم يبدأ النبي العربي الكريم محمد بعد أن بسط سيطرته على المدينة المنورة بترحيل اليهود الذين كانوا فيها مباشرة إلى «الأرض المقدسة» التي كتبها الله لهم كما يقول الهدلق وزملاؤه، بل على العكس من ذلك قرر النبي أن يعيش هو والمسلمون مع أولئك اليهود اليثاربة بموجب مبادئ محددة في وثيقة مكتوبة هي بمثابة عقد اجتماعي بدائي ومتقدم جداً قياساً إلى عصره سماها المؤرخون اللاحقون «الوثيقة اليثربية». هذه الوثيقة خانها زعماء اليهود اليثاربة أنفسهم، ودخلوا في تحالفات سرية مع الوثنيين المكيين ضد المسلمين الموحدين مثلهم كما يُفْتَرَض، وحدث ما حدث؟ وحتى حين وقعت الحرب بين المسلمين واليهود، وانتهت بهزيمة الطرف الثاني، فلماذا أصر اليهود على البقاء في المدينة، وكان متاحاً لهم الرحيل إلى «بلادهم المقدسة»؟ ولماذا حين قرر النبي محمد ترحيلهم من الحجاز والجزيرة العربية تشتتوا في كافة أصقاع الأرض ولم يتجهوا كلهم ومباشرة الى فلسطين بوصفها «أرضهم المقدسة»؟ ولماذا رافق اليهودُ العربَ المسلمين في ما بعد في ترحالهم ووصلوا معهم الى جنوب أوروبا «الأندلس»، وعاشوا هناك قروناً في حمايتهم، وحين أخرِجَ المسلمون منها خرجوا معهم وعانوا مثلما عانى المسلمون ممن أصروا على البقاء في الأندلس من «محاكم التفتيش».
إن موضوع تاريخ فلسطين في العصور القديمة مهم وخطير ومعقد، وقد بدأ يتخذ أهمية استثنائية في الصراع الدائر اليوم بين الحركة الصهيونية وحلفائها الغربيين وبين شعوب المشرق العربي وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني والشعوب البلدان الإسلامية وملايين المسيحيين في العالم الذين يعتبرون القدس مدينة مقدساتهم أيضاً. والواقع فإن هناك جهلاً طاغياً بتاريخية وجغرافية فلسطين حتى بين صفوف المثقفين التقدميين. وإذا ما علمنا أن الموضوع إشكالي ومعقد أصلاً، سنفهم أن الاكتفاء بالمعلومات والشعارات والكتابات السياسية السطحية حول الموضوع هي نقطة ضعف خطيرة نعاني منها على هذه الجبهة المهمة، جبهة الثقافة والإعلام. وهذا ما سنخصص له وقفة خاصة في نص قادم.
* كاتب عراقي