دمشق | غالباً ما يحاول بعض صنّاع الدراما الاحتيال على الرقيب من خلال تمرير أفكارهم بطريقة غير مباشرة. لكن المعركة اليوم لم تعد تقتصر على الجهات الرقابية فحسب، بل تعدّتها، لتصبح مع القنوات التلفزيونية، والجهات المنتجة. فالقائمون على غالبية المحطات، لا يريدون للدراما أن تشتبك مع الظرف الراهن، وتقدم مادة واقعية. هي تريد لمشاهدها أن يبقى سطحياً مهتماً بأفضل حالاته بقصص رجال المال، ونوعية السيارات، وقوام ممثلات جميلات على هيئة عارضات أزياء.
هؤلاء بكل الأحوال لا يلقون بالاً للمرحلة التي وصلها التلفزيون في المطلق، وهي غالباً مرحلة أفول نهائية لصالح اليوتيوب والتلفزيون الرقمي. هذا الفضاء يمكن أن يقدم بميزانية أقل عموماً، وهوامش حرية واسعة، واحتمالات مفتوحة تتيح إمكانيات أكبر للتجريب وخوض المغامرات، في حال وُجدت النية لدى صانع العمل بذلك.
صحيح أنّ تجارب سورية عدة قُدمت في الماضي عبر شبكة الانترنت، لكنها كانت متواضعة جداً، لناحية المساحة الإبداعية، والإمكانيات التي شاركت في خلقها. في النهاية، لم تحقق تلك التجارب الحد الأدنى من النتائج المرجوة. لكن هذه المرّة، راح الممثل والسيناريست السوري رافي وهبي، نحو تجربة مسلسل سوري رقمي للمرة الأولى، بحيث يمكن لمشاهده أن يختار الطريقة التي تناسبه في المتابعة. طرح وهبي قبل مدّة إعلان مسلسل «بدون قيد» (تأليف رافي وهبي وباسم بريش، الأخير أعّد السيناريو، وإخراج اللبناني المعروف أمين درة، وإنتاج راي بركات وإيلي الصويبي، وبطولة: رافي وهبي وعبير حريري، وينال منصور، وندين تحسين بيك، ومحسن عباس، وخالد حيدر، وعلاء الزعبي، وخالد أبو بكر). بعدها بأيام، طرح العمل كاملاً على مواقع التواصل الاجتماعي. بدا واضحاً حتى قبل العرض، واستهلالاً من العنوان بأن المسلسل يمرر جرعة نقدية عالية في مواجهة ربما السلطة، والمواضيع فائقة الحساسية والإشكالية. يعرّف العمل عن نفسه بأنّه «قصة عن الأمل المتجدّد، البدايات المختلفة. ينطلق برفقة ثلاث شخصيات في رحلة اكتشاف الذات، والتعامل مع مَجهول يغيّر حياتهم التي كانت بالأمس عادية. العمل ثمرة تعاون لبناني - سوري، أنجزت أول مسلسل رقمي ترفيهي يسمح للمشاهد أن يختار بنفسه طريقة المشاهدة التي تناسبه». يبرر كاتب القصة وبطلها الممثل السوري رافي وهبي انحرافه نحو هذا البديل الفني المعاصر بالقول: «مع إصرار المحطات الفضائية التقليدية على تجاهل الأعمال السورية التي تتناول الواقع، صار البحث عن أشكال جديدة ومبتكرة للسلعة الدرامية ضرورياً. وكذلك البحث عن بدائل ومنصات جديدة، خصوصاً في ظل توافر مثل هذه المنصات، لا بل تفوقها على الشاشات التقليدية وقدرتها على الوصول إلى شريحة كبيرة من المشاهدين والتفاعل معهم بشروط رقابية أقل حدة من تلك التي باتت تلاحق الدراما الواقعية، فتعيق وصولها إلى المشاهدين، وبالتالي تمنع إنتاجها بحجة افتقادها لجرعة الترفيه المطلوبة. في تجربتي الجديدة «بدون قيد»، محاولة جادة لتقديم دراما تلفزيونية سورية واقعية وجريئة، وبطبيعة الحال لا تتنازل عن مهمتها الأساسية وهي التسلية والترفيه».
يقدم العمل حكاية بسيطة عن ثلاث شخصيات سورية يمهّد لها من خلال دقائق قليلة. ثم يترك فرصة للمشاهد كي يختار الخط، أو رواية الشخصية التي يريد أن يبدأ بمشاهدتها أولاً. يتم ذلك من خلال مقاطع موزعة على دقائق (لا تتجاوز مدّة كل واحد 5 دقائق). تمرّ في الحكاية شخصية ثانوية، في سياق الأحداث، ليجد أنها بطلة الخط الثاني من العمل. وفي ختام حكاية الشخصيات الثلاث، تسدل القصة ستارها بمقطع ختامي، بمدة لا تزيد عن 5 دقائق أيضاً، تجتمع فيها شخوص العمل كاملة وتذهب بهدوء نحو نهاياتها. يمكن لمتتبع أخبار وكواليس الوسط الفني السوري معرفة أن كاتب «سنعود بعد قليل» أخذ هذا المشروع على عاتقه، وطلب من زملائه العمل بأقل الأجور الممكنة، كي يخرج بنتيجة تؤكد على إمكانية تقديم دراما مختلفة، غير مفصّلة على مقاس المحطات والمنتجين، ويمكن لها أن تجلب دخلاً دورياً لمدة معينة من خلال حجم المشاهدات المتزايدة على اليوتيوب. على أن يوزّع هذا الدخل بالتوازي على صناع العمل، أو يعود للمنتج في حال دفع أجوراً جيدة. وبعيداً عن الحكاية التقليدية المطروقة أصلاً في خطوط الأعمال السورية، عن الشخصيات التي حاصرتها الحرب، وتجّار الأزمات، تتوقف الحكاية عند ريم المهندسة الزراعية التي تعيش في درعا مستسلمة لعقلية محافظة بائدة، تفقد هويتها عند سرقة محفظتها، وتحاصر بجشع خالها والروتين الأمني المحبط. وهناك وفيق ضابط الشرطة النزيه الذي يفقد ابنه الوحيد نتيجة تصفية حسابات مافيات فساد تليها خسارته زوجته منتحرة على اثر فقدها الهائل، فيأخذ خياره بالانتقام. وأخيراً، هناك كريم المدرّس الشاب والبسيط الذي ينخرط أحد أصدقائه بالعمل الإعلامي المعارض، فيتعرّض للاعتقال. يحقق العمل طموح المتلقي بمشاهدة دراما تشبهه، وشخصيات قريبة منه، وربما عايش بعضها في حياته. كذلك يتخلّص من كل أنواع الثرثرة الزائدة، ويقدم وجبة كاملة الدسم، معافاة من تداعيات التطويل، وثقل الثلاثين والستين حلقة، إضافة إلى الأسلوب الذي يتسّم بالجدة والرشاقة والتكثيف بأعلى درجاته. ساعة ونصف الساعة كحد أقصى، كافية لأن يأخذ المتلقي جرعة دراما كفيلة بعدل مزاجه وصياغة متعته وتسليته في الدرجة الأولى، ومن ثم صدمته بالنهايات الحتمية التي بات يسير إليها السوريون مرغمين.
«بدون قيد» تجربة تلفزيونية، تهدم القواعد التقليدية بتكثيفها للحدث، وتتمرّد على قوالب مسبقة الصنع من ناحية الوقت المقترح للحلقة وللعمل ككل، من خلال زمن ينسجم مع روح العصر وتغريدة الـ 140 حرفاً، مقدّمةً نموذجاً للسهل الممتنع في الدراما. ورغم أنّها كانت تحتمل الكثير من الجرأة الإضافية في الخوض في موضوعات ممنوعة، إلا أن التجربة افتتحت، ولن تتوقف حالياً، فغالب الظن بأنها ستكمل مع ممثلين مكرّسين مستفيدةً من حالة الحفاوة التي حصدتها على السوشال ميديا والإعلام، وصفحات بعض العاملين في الوسط الفني.