في كتابه «سارق الطماطم أو زادني الحبس عمراً» (دار سيراس)، يغوص الصادق بن مهنّي في تفاصيل تجربته داخل سجون نظام الحبيب بورقيبة، واسترجاع صور شخصيّاتها، بعيداً عن ثنائية الملائكة والشياطين وبقيّة الثنائيات المنبثقة عنها. في أحد أيام حزيران (يونيو) 1980، أفاق الحبيب بورقيبة في قصره الرئاسي، جهّز نفسه ثمّ جلس في مكتبه ليبدأ يوماً آخر من العمل. كان له لقاء مع مجموعة من الشبّان. وصل المدعوّون، كانوا شباباً يافعين وأنيقين. أُعجب بهم الرئيس، سألهم عن عدد السنوات التي قضوها في السجن، واستنتج، ارضاءً لأناه، أنّ ما قضّاه هو مسجوناً ومنفيّاً يتجاوزها. وبعد تبادل أطراف الحديث، انتهى اللقاء بالعفو عنهم، وترك مسألة العفو عن بقيّة رفاقهم لذكرى مولده. كان من بين أولئك، الصادق بن مهنّي، الذي أنهى بهذا المشهد سيرته السجنيّة هذه. في استرجاعه للمشهد، لم ينس الصادق أن يذكّر بما شعر به وأسقطه بيان رئاسة الجمهوريّة حينها. بعد ربع قرن من الحكم، وما يقارب خمسة عقود من العمل السياسي، كانت أجهزة النظام تجهد لاستبقاء «كاريزما» الزعيم وصورته المشرقة.

أما بالنسبة للشاب القادم توّاً من السجن، فقد كان الأمر مختلفاً، يقول: «لكنّني عندما دخلنا مكتبه وجدته «عجوزاً» تفشل المساحيق رغم كثافتها في التخفيف من وجهه وحدّتها، ثم رأيت حركات يديه وقفزه يبغي مغالبة قصره ومكابدته ليظلّ واقفاً طوال اللقاء فكاد يغالبني الضحك».
يلخّص الوصف كلّ الحكاية، ينتمي المؤلف إلى جيل تجاوز زعامة «الزعيم» وسلطته الشخصية. هو ينتمي إلى جيل سياسي متعلّم، وإن كان ابن سياسات نظام بورقيبة، إلاّ أنّه يعارضه (أليست الأضداد من بعضها تتوالد؟). تروي السيرة، بالأساس، سنوات سجن المؤلف ورفاقه في منظمة «آفاق» اليساريّة. لم تكن المنظمة بالقوّة التي تمكنها من إسقاط النظام، لكن ضربها كان لرمزيّة ما تطرحه.
كان بورقيبة يرى المسألة شخصيّة، أن ينادي شباباً بشعار «الشعب هو المجاهد الأكبر» فتلك إهانة له، لذلك هو من يعاقب... ومن يعفو أيضاً. من ذلك ما قيل للمؤلف ورفاقه: «سيادته غاضب. علينا أن نهدئه. ستكون الأحكام قاسيّة. قلب الأب الحنون سرعان ما سيستيقظ».
وُضع المعارضون في السجن. هناك اكتشف الصادق أنّ المكان أكثر من مجرد جدران مغلقة، وعاش تجربة حوّلته بلا رجعة. في الرحلات الكثيرة بين السجون، عرف أماكن لم يكن يعرفها من قبل. وداخل السجن عرف بشراً من كلّ الأعمار وجهات البلاد والتوجهات السياسيّة. لعلّ أبرز الوجوه التي تناولها المؤلف هم حراس السجون، من الفتى الذي ارتمى في حضنه وأخذ يبكي نادماً على اختياره هذه المهنة إلى العم عمار الذي «طبّق معايير حقوق الإنسان وإن لم يعلمه إيّاها أحد»، وصولاً إلى السجين المكلف بإسناد الحُراس الذي تمنى «أن يقضم بما تبقى له من أسنان حبّة طماطم طازجة» فسرق من مؤونة رفاقه واحدة وأهداها له.
في السجن أيضاً بدأت المراجعات الفكريّة. بمرور الوقت، ابتعدت الجماعة عن الماركسيّة اللينينيّة وقربت أكثر إلى الطروحات الديمقراطية والنشاط الثقافي. يصف المؤلف هذا المسار: «بدأنا شيئاً فشيئاً نتبدّل، بدأت تشدنا مقولات الديمقراطيّة والأفكار التي بدأت تروج بخصوص النّضال من أجل حقوق الإنسان، وأغرمنا بنظريات الثورة العميقة والجذريّة، ثورة العقليّات، الثورة الثقافيّة والفكريّة».

تروي السيرة سنوات سجن المؤلف ورفاقه في منظمة «آفاق» اليساريّة

سيثمر هذا التحوّل مستقبلاً توجّه عدد من المساجين المذكورين في الكتاب إلى آفاق جديدة. انغمس النوري بوزيد أكثر في صناعة السينما، ونور الدين بن خضر في صناعة النشر، مارس هاشمي الطرودي الصحافة، فيما ساهم آخرون في تأسيس «الرابطة التونسيّة لحقوق الإنسان» وفرع «منظمة العفو الدوليّة».
بعيداً عن الماضي وتفاصيله، تختلف بداية الكتاب عن البدايات العاديّة لهذا الطراز من الكتب، إذ انطلق الصادق من الحاضر، ومن حكاية غيره. تتعلق قصّة البداية بشاب جاء لمنزل المؤلف حتى يصلح سخّانه، فيرى كتباً كثيرة. عرف بعد استفساره أنّها تبرعات موجّهة إلى مكتبات السجون، وتكون مدخلاً للحديث عن تعرّضه، بمحض صدفة سيّئة، إلى التعذيب من قبل أعوان أمن على امتداد أيّام. الكتاب إذاً ليس وثيقة للتأريخ فقط، بل هو أيضاً بيان سياسي موجّه للحاضر، عن جريمة التعذيب التي لم تختف بعد، عن السجون وأوضاعها، وعن منظومة العدالة المتعثّرة.
يأتي الكتاب استمراراً لسلسلة مؤلفات كُتبت على أيدي أفراد هذه المجموعة من المساجين الرفاق. بدأت السلسلة بكتاب جلبار النقاش «كريستال»؛ وفتحي بن الحاج يحيى (الحبس كذاب والحيّ يروّح: ورقات من دفاتر اليسار في الزمن البورقيبيّ)؛ ومحمد صالح فليس (سجين في وطني: صور من يوميات معتقل سياسيّ)؛ وأحمد كرعود (من دروس الشيخ خليف بمسجد القيروان إلى اليسار الماوي)