لنفهم الكمبيوترات الخارقة، لا بد أوّلاً أن نفهم الكمبيوترات العادية، التي نستخدمها يومياً، من الناحية التقنية ولو بشكل مبسط جداً لمعرفة تاريخ التطور الذي لحق بها عبر عقود من الزمن. يمكن تشبيه وحدة المعالجة المركزية (CPU) الموجودة داخل معظم الأجهزة الإلكترونية التي تتطلب أداءً عالياً في الكمبيوتر بالعقل البسيط، وهي تشكل النواة الأساسية التي تكوّنه وتقود فعالياته. هذا العقل البسيط يعالج البيانات التي تتضمنها البرمجيات عبر تنفيذ عمليات حسابية لإنتاج بيانات جديدة ذات فائدة.
وفي سبيل ذلك، لا بد من وجود ذاكرة حية (RAM) على مقربة من وحدة المعالجة المركزية لتخزين البيانات الآنية أو الدائمة (البيانات الناتجة مثلاً) بسرعة كبيرة أيضاً. النظام الذي يدعى «نظام العدّ الثنائي» (Binary system) مستخدم عملياً كلغة ترميز للبيانات (الصفر والواحد) في كل الحواسيب الحديثة بسبب سهولة تنفيذه مباشرةً في الإلكترونيات الرقمية. وبناءً عليه، يمكننا ربط سرعة الكمبيوتر أساساً بسرعة الدماغ البسيط، أي الـ CPU، في معالجة البيانات، وبسعة الذاكرة الحية (RAM).

نهاية قانون مور

بعد طرح شركة إنتل لأول معالج (4004) في الأسواق عام 1971، الذي كان يحتوي على 2300 ترانزستور صغير، ويعمل بسرعة 108 كيلوهرتز، صدق توقّع غوردن مور، أحد مؤسسي شركة إنتل في ما يخص مسار تطوّر شرائح المعالجات في الأعوام القادمة. وطبقاً لقانون مور، قوة المعالجة ستتضاعف كل عامين، إذ سيزداد عدد الترانزستورات التي يمكن تجميعها في رقائق السليكون مع إبقاء سعر الشريحة وحجمها على حالَيهما. لم يكن توقع مور كمثيله من توقعات المنجمين، إذ إن معالجات إنتل بدأت تصبح فعلاً أكثر قوة وفعالية بالاعتماد على قانونه (لم تكن شركة واحدة تحتكر صناعة المعالجات، بل تنافست عدة شركات في ذلك، لكن شركة إنتل هي الرائدة في هذا المجال)، إذ توالت لاحقاً أجيال من المعالجات أكثر سرعةً وحداثةً وأقلّ استهلاكاً للطاقة.
لكن منذ أكثر من عقد من الزمن بدأت الأصوات ترتفع متسائلةً عن مستقبل قانون مور، إذ وصلت أحجام الترانزستورات إلى مستوى يصعب الاستمرار في تصغيرها، خصوصاً إذا ما أخدنا بالاعتبار مشكلة استهلاك الطاقة أيضاً. فقد صرحت شركة إنتل آنذاك بأن زيادة سرعة المعالجات ذات الأنوية الأحادية (Singlecore: أي التي تحتوي على وحدة معالجة مركزية واحدة) بزيادة ترددها (Frequency) صار صعباً للغاية بسبب الارتفاع الملموس في حرارتها أثناء إنجازها المهمات المختلفة واستهلاكها الزائد من الطاقة.

تُستخدم الكمبيوترات الخارقة لحل مشاكل مثل التنبؤ بالطقس، دراسة الفضاء،

التنقيب عن النفط...

نتيجةً لذلك، فكر المهندسون في تصميم معالجات ذات أنوية متعددة (Multicores: تحتوي بالتوازي على عدد من وحدات المعالجة المركزية). هذا الأمر يمكّن من معالجة مهمات مختلفة بتردد منخفض (Low Frequency) واستهلاك طاقة أقلّ (Low Power Consumption) لكل نواة في المعالج، وبالتالي زيادة فعاليتها وسرعتها. لتوضيح المسألة: فلنتخيل أنّ عامل بناء يريد نقل قطع إسمنت من مكانٍ إلى آخر، ألن يكون الأمر أكثر سرعة وفعاليةً وأقلّ إرهاقاً عليه لو انضم إليه ثلاثة عمال آخرين، وأدى كل واحد منهم المهمة نفسها بالتوازي؟

كمبيوتر لحل المشاكل الكبرى

فكرة تعدد النواة داخل المعالج تمكّن إذاً من توفير الوقت والمال وحلّ الكثير من المشاكل الكبيرة والمعقدة جداً التي من غير العملي أو حتى من المستحيل معالجتها عبر جهاز كمبيوتر شخصي واحد، خاصة إذا ما نظرنا إلى ذاكرة الكمبيوتر المحدودة وإلى محدودية سرعة المعالجات. على سبيل المثال، يمكننا ذكر مشاكل التحدي الكبرى (Grand Challenge) التي تتطلب «بيتافلوبس» (PetaFLOPS تساوي 1015 عملية حسابية في الثانية) للتنبؤ بالطقس والمناخ، دراسة الفلك والفضاء، عمليات الاندماج النووي، الحروب الإلكترونية، المحاكاة، تصميم الطائرات، محركات البحث على الإنترنت، البيانات الضخمة (Big Data)، قواعد البيانات، صناعة الصواريخ، التنقيب عن النفط، الرسومات العالية الدقة... هذه المشاكل يتطلب حلها كمبيوترات خارقة تحتوي على آلاف بل ملايين وحدات المعالجة المركزية، وهذه الكمبيوترات تطوّرها الحكومات في عدد من الدول الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية والصين واليابان وأوروبا طبعاً.
حالياً يجري استخدام ما يعرف بالمعالجة المتوازية (Parallel computing) على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم، إما من خلال استعمال المعالجات الموجودة على الكمبيوترات الشخصية للأفراد والشركات الصغيرة التي تحتوي على عدد صغير من وحدات المعالجة لتسريع خوارزميات تحتاج إلى معالجة في الزمن الحقيقي، كخوارزميات الرؤية الحاسوبية؛ أو من خلال استعمال الشركات العملاقة والوكالات التابعة للحكومات الكمبيوترات الخارقة لمعالجة مشاكل كانت في الماضي تحتاج إلى سنوات، وباتت معالجتها اليوم تحتاج إلى أيام فقط.
تصميم هذه الخوارزميات وزرعها وتشغيلها في الكمبيوترات الخارقة يحتاج حتماً إلى فهم عميق لهيكليات هذه الكمبيوترات وإلى لغات برمجة محددة. لذلك جرى تطوير، ولا يزال، عدد من الواجهات المفتوحة المصدر من قبل مراكز أبحاث رائدة في هذا المجال لتسهيل تصميم الخوارزميات بالشكل الذي يمكن تشغيلها على هذه الكمبيوترات. يمكننا هنا الحديث عمّا يعرف بـ (OpenMP (Open Multi-Processing و (MPI (Message Passing Interface. عادةً، ننطلق من خوارزميات حاسوبية مكتوبة بطريقة تسلسلية واحدة مصممة للتشغيل على وحدة المعالجة المركزية، ونقوم بتغييرها لتعمل على كمبيوترات متعددة النواة، هذه النقلة هي في أغلب الأحيان صعبة وأكثر تعقيداً وتحتاج إلى إلمام بما يعرف بالبرمجة المتوازية ولغات البرمجة بطبيعة الحال.
إذاً، الكمبيوترات الخارقة هي عبارة عن كمبيوترات تمتلك موارد هائلة جداً، تستخدم لمعالجة كمّ هائل جداً من البيانات، ولها القدرة على تخزين كمّ هائل جداً من البيانات والمعلومات.

*مهندس ودكتور في مجال علوم الكمبيوتر وأنظمة تكنولوجيا المعلومات - باحث في الوكالة الفرنسية للطاقة الذرية والطاقات البديلة



حرب الكمبيوترات الخارقة: الصين في الصدارة





صمم أول كمبيوتر خارق في ستينيات القرن الماضي على يد Simor Crey في شركة IBM لمصلحة جامعة كولومبيا. استُخدم في هذا الكمبيوتر عدد قليل من المعالجات في تصميمات الكمبيوترات الخارقة. أما في سبعينيات القرن العشرين، فبدأت تدخل آلاف المعالجات في صناعة هذه الكمبيوترات.
من ناحية أعداد الكمبيوترات الخارقة، تتصدر الصين قائمة البلدان المهيمنة بـ 202 جهاز من أصل 500 جهاز كمبيوتر خارق في العالم، وفقاً لتقرير موقع «توب 500»، فيما تضمّ الولايات المتحدة 143 جهاز كمبيوتر خارق. كذلك تتربع الصين على عرش أقوى هذه الكمبيوترات، إذ تضم أسرع كمبيوترين على وجه الأرض (الكمبيوتر الأول يدعى TaihuLight، وهو مكوَّن من 10649600 نواة CPU و 1311 تيرابايت كحجم ذاكرة (RAM)). هذه السنة تعتزم الصين البدء بإنشاء الكومبيوتر الخارق Tianhe-3 الذي ستنهيه عام 2020 أو أبكر، والذي سيكون أول كمبيوتر في العالم يمكنه أن يجري «مليار مليار» عملية حسابية في الثانية، ، وذلك رغم تصريحات الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عن إطلاق برنامج لإنشاء كمبيوتر خارق سيزيد مردوده على الكمبيوتر الصيني 30 ضعفاً. هي حرب الكمبيوترات الخارقة إذاً.
بناءً على ما تقدم، يمكننا القول إن قوة الحوسبة الفائقة لكل دولة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالقدرات الصناعية والأكاديمية والعسكرية، وهي تفرض إلى حدٍّ ما توازناً دولياً، وهي بمثابة ثروة وطنية تسعى الدول إلى امتلاكها وتطويرها. لذلك نرى بوضوح تام أهمية الكمبيوترات الخارقة ودورها الفاعل دولياً وعلمياً.

صمم أول كمبيوتر خارق في ستينيات القرن الماضي على
يد Simor Crey

باستثناء وجود كمبيوتر خارق في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية في السعودية، يُدعى «شاهين 2» صممته شركة IBM الأميركية، وهو مكوَّن من 197,568 نواة (CPU) و 790 تيرابايت كحجم ذاكرة (RAM) ويستعمل في مجالات الموارد والطاقة والعلوم البيولوجية، فإن وضع الدول العربية مزرٍ في هذا المجال. لكن هذا لا يعني الوقوف متفرجين على ما يحصل في الغرب، إذ إنّ على الجامعات كافة، ولا سيما في لبنان، إدخال مواد تعليمية عديدة حول هذا الموضوع، بالإضافة إلى القيام بمشاريع، وإن كانت بسيطة، لكنها تشكل انطلاقة لا بأس فيها، خصوصاً أنّ بالإمكان اليوم شراء العشرات من شرائح الكمبيوترات الصغيرة المتدنية الثمن مثل ال RaspberryPi، وربطها ببعض لتشكيل كمبيوتر خارق صغير يمكن استعماله في التعليم والبحث. لا يجب أن نغفل أيضاً وجود شرائح إلكترونية أخرى مثل الـ GPU والـ FPGA ذات التصميم المختلف، ولكن يمكن إدراجها على قائمة الشرائح ذات الحوسبة الفائقة. هذا الأمر يُعَدّ في غاية الأهمية، وهو لا يحتاج إلى ميزانيات ضخمة، بل إلى قرار وإرادة لنتمكن أقله من مواكبة التكنولوجيا الموجودة في العالم وتمكين الطلاب من الدخول إن أرادوا هذا الميدان.
أحمد...

* للمشاركة في صفحة تكنولوجيا التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]