1- مبضَعُ الجرَّاح، وجسدُ المدينة
■ منذ انتهاءِ الانتفاضةِ الشعبيَّةِ في العام 1958، ومِبْضعُ الجرَّاحِ يحفرُ عميقاً في جسد المدينة العاصمة، دون أي اكتراث بالتراثِ الذي يدمِّره، وبالآلام التي يسبِّبُها.
جادةُ فؤاد شهاب أولاً، من غربِ المدينة حتى منطقة فسَّوح في شرقها. كانت متواضعةً في عرضها عند البدايات، وأصبحت مبْتلِعةً كل ما يحُوطُها، فاصلةً المدينةَ عن قلبها التاريخي.

ثم كورنيش المزرعة، يوصِلُ منطقةَ الروشة بطريق النهر عبر جادة عبدالله اليافي. كورنيشٌ مزروعٌ بالأنفاقِ المُعتِمة، من الرملة البيضاء، حتى مستديرة قصر العدل.
ثم جادة الاستقلال، تحاذي الشبابيك، وتتراكَمُ جسوراً فوق بعضها، طبقاتٌ طبقات، وتخترقُ المصيطبة، وبرج أبي حيدر، والبسطة، وصولاً إلى منطقة السوديكو، والأشرفية... وغيرها من الأوتوسترادات المدينية.
■ ومع انتهاءِ الحربِ الأهلية، وبدايةِ موسمِ الإعمار المُوجِع، أمعنَ الجرَّاحُ في تقطيعِ جسدِ المدينةِ بشكلٍ شبه هستيري. فأُكمِل نفقُ سليم سلام أسود، مُعتِماً، شمالاً وجنوباً. واد عميق أوصَلهُ إلى منطقة «عسُّور» عند نصب رياض الصلح، وفصلَ بقسوةٍ زقاق البلاط عن الباشورة. وجسرٌ جاورَ شرفاتِ المنازلِ وكادَ يقتحمُها. ثم نفقٌ، ثم وادٍ بجدرانٍ مرتفعةٍ، تُمزِّقُ، وتَحجُب الرؤيةَ، فتضيقُ معها أنفاسُ العابرين. أوصلَ الجرَّاحُ عبْر هذه المنشآتِ، منطقةَ الفنادقِ إلى المطار، ومنه، إلى خلدة خارج بيروت.
ثم استدارَ نحو منطقة الأونيسكو، ووقف عند نصب حبيب أبي شهلا والمبضعُ في يده. نظرَ جنوباً، واقتطع من لحمِ المدينةِ شريحة مبالغةً بعرضِها، ورصفَ في المكانِ أوتوستراداً مدينياً، وجعله المدخلَ الجنوبيَّ الرئيس للعاصمة.
■ فَصَل الأوتوسترادُ المستحدثُ، شرقَ منطقةِ الرملةِ البيضاءِ عن غربها، وبدا كنهرٍ جارفٍ، يستحيلُ عبورُه من ضفةٍ إلى أخرى. فحفرَ فيه الجرَّاحُ نفقين، واحدٌ في أوله، وثانٍ في آخره. وتمدَّد الأوتوسترادُ عبر منطقةِ الأوزاعي، ليمرَّ في نفقين تحت المدرَّجين الجديدين.
رَدمَ الجرَّاحُ هناكَ الشاطئَ الرمليَّ الأجملَ في المدينة، وبنى جداراً يحمي الأوتوستراد من الأمواج، ويحجُبُ البَحرَ عن العابرين.
■ كان الجرَّاح قد عمدَ قبل ذلك، إلى توسيعِ جادةِ فؤاد شهاب كما سبق وذكرت، وتوسيعِ شارعِ جورج حداد عند بوَّابةِ الجميزة. فزنَّر ضاحيةَ الأغنياءِ عنيتُ منطقةَ سوليدير، وفصَلَها عن المدينة، أكرر مضطرَّاً. وتمدَّدت جادة فؤاد شهاب في منطقة فسَّوح، عبر نفقٍ وجسرٍ، فطالت المدينةُ العاصمةُ بذلك، منطقتي سن الفيل والدكوانه.
أما في وسط جزئها الغربي، فحُفِرتْ الأنفاقُ المتكررة على امتداد كورنيش المزرعة كما سبقَ وذكرتُ مرةً أخرى، وجادة عبدالله اليافي، ومنطقة العدلية، وصولاً إلى طريق النهر، وطريق طرابلس.
وتفرَّع من جادةِ فؤاد شهاب أوتوستراد مديني آخر، اخترق نفقاً تحت ساحة ساسين، فسلكَ طريقَ أوتيل ديو، وسيَّار الدرك، والمتحف. أو استمرَّ فوق جسرٍ ليصلَ إلى الحازمية وطريق الشام.
■ وبجانب النهر، عند الحدودِ الإدارية للمدينة، تزاحمت فوق قواعد خرسانيةٍ ضخمة، أوتوستراداتٌ متوازيةٌ، يَحارُ واحدُنا، كيف يجدُ طريقَه عندما يسلكُها.

2- مزَّق الإعمارُ جغرافية المدينة، فاختنقت اجتماعياً.

■ مزَّق الإعمارُ إذاً جسدَ المدينة، وفتَّتَ وَحْدتها الاجتماعية، وجعل الطرقاتِ الرئيسةِ فيها، مجالاتِ عبورٍ إلى أمكنةٍ هامةٍ خارجها:
إلى الكازينو، وطريق طرابلس.
إلى الحازمية، وطريق الشام.
إلى المدينة الرياضية، والمطار.
إلى الأوزاعي، وخلده، وطريق الجنوب...
■ وكانت الحربُ الأهليةُ، قد قسَّمتِ المدينةَ في قلبِها، وعلى امتداد طريق الشام، إلى شرقيَّةٍ وغربيَّة. كان الانقسامُ مدينياً، واجتماعياً، وطائفياً، مع إلغاءٍ كاملٍ لدورِ قلبِ المدينة الموحِّد، وطنياً واجتماعياً.

يستمرُّ اختناقُ العاصمة اجتماعياً،
مع محوٍ كاملٍ لمعالمِها التاريخية، ولأمكنةِ الذاكرةِ الجماعيةِ فيها

توقفتِ الحربُ، بعد أن كانتِ المدينةُ قد أعلنتْ بدايةَ اختناقِها، الوطنيِّ، والاجتماعي.
■ وجاءت إعادةُ الإعمارِ، ففصلت قلبَ المدينةِ عن جسدِها، أكرِّر مرة أخرى، بطوقٍ من الأوتوستراداتِ العريضةِ القامعة. فقلنا في حينه، وهل يخفقُ قلبٌ خارجَ الجسد؟!
مات القلبُ إذاً، بعد أن ألغتْ إعادةُ الإعمارِ، كلَّ عناصر الحياة فيه:
- ألغتْ علاقتَه بالبحرِ أولاً، وهي ميزتُه الرئيسة.
- وألغتْ قيمتَه التاريخيَّة، بإزالتها الكثيرَ من المعالمِ، وبتغييرها لشبكةِ الطرقاتِ فيه، وبتدميرها لأسواقهِ التقليدية، أحد مجالات اللقاءِ الرئيسةِ بين ناسِ المدينة، وواحدة من أمكنة الذاكرةِ الجماعية العنيدة.
مات القلبُ إذاً، بعد أن أفقدتْه إعادةُ إعمارِه، دورَه الموحِّد وطنياً. وابتدأَ مع الموتِ هذا، اختناق العاصمة اجتماعياً.
■ نُطلُّ على الوادي العريضِ من فوقِ جادةِ فؤاد شهاب، فلا نرى ساحة البرج، ولا نرى بعد ربع قرنٍ، جادةَ البرج الموعودة. وهل يُمكن لجادةٍ عريضةٍ، أن تكون بديلاً عن ساحةٍ عريقةٍ، تاريخيةٍ، جامعةٍ، دافئةٍ، مرحَّبةٍ، حاضنة؟!
نُطلُّ من فوقِ الجادة على المجالاتِ الفارغةِ الباردة، فيقال لنا، إذا سألنا عن ساحة الدباس، إنها في مكان ما، في أعلى الوادي العريض، المُقْفِر!
وإذا سألنا عن ساحة رياض الصلح، يشيرون إلى نُصبٍ ضائعٍ وسط رصيفٍ، أمام سورٍ لمشروعِ بناءٍ ضخمٍ سيقام هناك.
ابتلعَ الساحةَ رصيفٌ. وسوف يضيعُ النصب غداً، أمام المبنى العملاق. خاصة، وأن ساحةً - حديقةً أخرى افتُعِلتْ هناك، تحمِلُ اسم «جبران خليل جبران».
تزوير فاضحٌ مؤذٍ. ويصلُ التزويرُ لوقائِعِ الجغرافيا والتاريخِ إلى ذُروتِه، عندما يقولون إن المارينا الضخمة التي ابتلعت خليج القديس جاورجيوس هي «الزيتونة باي» أو خليج الزيتونة، والمجال شمال مبنى ستاركو، هو «ساحة الزيتونة».
ويستمرُّ اختناقُ العاصمةِ اجتماعياً، مع هذا الإصرارِ على محوٍ كاملٍ لمعالمِها التاريخية، ولأمكنةِ الذاكرةِ الجماعيةِ فيها. ومع الإمعانِ في تزويرِ هُوية الأمكنة، وجوهرِ انتمائها الجغرافيِّ، والإنساني.
■ ثم جاءت إعادةُ الإعمارِ أكرِّر، ومعها وبعدها، طفرةُ البنيانِ العمياءُ، فقُسِّمت المدينة المقسَّمة.
قُسِّمت المدينةُ العاصمةُ إلى جزرٍ مبنيَّةٍ معزولةٍ، تحوطُها الطرقُ، والأوتوستراداتُ، والجسور، والأنفاق.
جزرٌ لا تتواصلُ ولا تتفاعلُ، ولا أمكنةَ فيها للقاءٍ ينتج وعياً جماعيَّاً.
أُضيفَ إلى العازلِ الطائفيِّ، عازلٌ جغرافيُّ، كما أضيف إليه أحياناً، عازلٌ مذهبيّ.
ازدادَ العازلُ المذهبيُّ وضوحاً، مع الأوضاعِ العربيةِ الراهنة.

3- بيروت التي مات قلبها، ومُزِّقت فاختنقت اجتماعياً... بيروتُ المكتظَّة بمبانيها... تزداد اختناقاً... وتحتضر

■ نسيج المدينةِ العدائيُّ المخيف.
تنتشرُ اليوم بغزارةٍ، الصور الجويةُ لمدينةِ بيروت. بيروتُ الإداريَّةُ، من البحرِ غرباً إلى النهرِ شرقاً، ومن البحرِ شمالاً إلى الجناحِ جنوباً، دون أن ننسى الردمَ المتمادي للبحر.
وتنتشرُ أيضاً الصور الجويةُ لبيروت الكبرى، من نهر الدامور جنوباً، إلى نهر الكلب شمالاً، صعوداً إلى الهضابِ القريبةِ، وإلى بعض المرتفعاتِ البعيدة.
صورٌ للمدينة بكاملها، وصورٌ للجزرِ المبنيَّةِ الأجزاء، التي رسمتها الأوتوستراداتُ المدينية، والأنفاقُ، والطرقات الرئيسة.
تُقلِقُكَ صورُ المدينة، لا بل تخيفُك. فهي تبدو نسيجاً مبنياً متراصّاً، عدائياً، لا نظامَ فيه ولا تجانس.
بعضُ الانتظامِ يُلاحظُ على جانبي الأوتوسترادات والطرق الرئيسة. وفي بنيةِ النسيج الكليَّة، تلاصقٌ، وتجاورٌ، واختناق. كتلٌ غيرُ متجانسة، وكأنها في مُجملها، صخرة نبتت في مكانِها منذ بداية الزمن، خشنةٌ، صلبةٌ، متراقصةُ الارتفاعات.
■ في جلد الصخرة السميك... الفتحاتُ واسعةٌ فوق الأوتوسترادات، والفتحات المسامُّ، غائبةٌ في كتلةِ المباني.
تقترِبُ من الصور. يبدو لك، وكأن للصخرةِ جلدٌ سميكٌ يلفُّها، حيكَ بصبر. تزيد من اقتِرابِك. في الجلدِ، فوق الأوتوسترادات والطرقاتِ الرئيسة، فتُحاتٌ واسعةٌ، تُعطي لما تحتها حصَّةً كبيرةً من السماء. وتُدخِلُ الهواءَ المنعشَ، والشمسَ المضيئةَ التي تُحيي.
■ جلد المدينة، ومسامُّه
تدقِّق في الصورِ التي أمَامكَ. تُحدِّقُ في جزئياتِ جلدِ الصخرة.
في داخل «الجزر – المدينة»، جلدُ «النسيج المبنيِّ – الصخرة»، سميكٌ، الفتحاتُ فيه غائبةٌ تكاد، لا مسامَّ في هذا الجلد. وجلدُ المدينةِ مساميٌّ كجلد الإنسان، يتنفَّس عَبْر مسامِّه. كيف يتنفَّسُ جلدٌ لا مسامَّ فيه؟ كيف تتنفَّس المدينةُ؟
أقولُ ببساطة، إنها لا تتنفَّس. وهي تختنقُ فعلاً لا مجازاً. بعد موتِ قلبها، واختناقِها الاجتماعي.
■ التوازنُ في صُنعِ المدينةِ، وفي حياكةِ جلدها
«يجبُ أن نعطي السماء حصَّتها، كما في الإبحار حصَّةَ الريح. يبنونَ أجساماً ملأى دونَ فراغاتٍ، فلا يُبحر مركبُهم» (جوزيف جوبير، 1799)».
منظِّم المدن، والمعمارُ، هما حائكان قلقان. مصدرُ قلقهما، هو التوازنُ بين الفارغِ والمليان، في كتابةِ عِمارة المدينة، وفي حياكةِ جلدها.

ازدادَ العازلُ المذهبيُّ وضوحاً،
مع الأوضاعِ العربيةِ الراهنة

نِسَبٌ متناسقةٌ، وتوازنٌ ضروريٌّ، يتيحان للمدينة أن تتنفس بشكلٍ طبيعيٍّ، أي أن تحيا.
التوازنُ الضروريُّ، كي يُبحر مركبُها في بحرِ الإعمارِ الإنساني الحقيقيّ. لا حصَّة للسماءِ في نسيج مدينةِ بيروت، ولا حائكٌ قلقٌ قد حاكَ جلدها.
إنه رأسُ المال المتوحِّشِ، والريعُ العقاريُّ الجشِعُ، يصنعان جسدَ المدينةِ ويحيكان جلدها.
لا مسامّ في هذا الجلد. لن تتنفَّسَ المدينةُ. المدينةُ تختنق.
■ المجاورةُ والتواطؤ... المجاورةُ والقمع.
المجاورةُ، هي أن نبني بجوارِ ما هو قائم. وفي كلِّ مجاورةٍ، تواطؤٌ. وفي التواطئ تسامحٌ وقبول.
قبولٌ يفترضُ تواصُلَ النسيج المبنيِّ في الزمن. كما يفترضُ سياقاً عاماً، نقرأُ في عِمارته هذا التواصل.
تواصلٌ يتجسدُ أمامنا، وكأنه تتابعُ فقراتٍ، في شريطٍ سينمائيٍّ ناجح.
وقانونُ البناءِ المعمول به حالياً، لا يرى أية قيمةٍ، في مُعظم ما هو قائم. قيمةٌ تاريخيةٌ، أو قيمةٌ معماريةٌ، أو قيمة جماليَّةٌ، أو قيمةٌ رمزيةٌ، قيمةُ الذاكرةِ الجماعية.
وهو يدفعُ، بقوة رأسِ المالِ، لاستبداله بما هو أكبرُ منه مساحةً. ويدفعُ خاصةً، لاستبدالِ كلِّ ما هو أفقيّ إنساني، ببرجٍ ينطحُ السماء.
تحتلُ مجموعاتُ الأبراجِ ناطحات السماء، معظم الأمكنةِ في بيروت الكبرى، متجاورةً، تكاد.
وهي لا تقبلُ مُجاوِرَها، ولا تتواصلُ معه. وحده الأفقُ البعيدُ يشدُّها، والعيشُ في فقاعةٍ معزولةٍ رائدُها. إنه «الاختناق النموذجي».
وإذا فشل القانونُ في إزالة القائمِ، فهو يجاوِره أو يلاصِقه، ببرجٍ يُبعد الشمسَ عنه، ويظلِّله في كل ساعات النهار، أو يحجُبُ عنهُ الرؤية كلياً.

إنها مجاورةٌ قامعةٌ، وفيها الاختناقُ الأكثرُ إيلاماً.
4- الطرقاتُ، والزواريبُ، والفسحاتُ، والأرصفةُ إذا وُجِدَتْ هي مواقف للسيارات... مجالُ المدينة بكامله، مرآبٌ كبير


المتجوِّل داخلَ الجزُرِ المبنيَّةِ المزنَّرة، يدخلُها من الطريقِ الرئيس. يكتشفُها تباعاً، في تشعُّبات الدروبِ الملتويةِ الضيقةِ، وفي الزواريبِ المسدودةِ، أو في الفسحات المتواضعةِ في آخر هذه الزواريب، أحياناً.
علاقةُ المباني، مع مسارِ الدروبِ والزواريب، غير منتظمة. يفرضُ هذه الفوضى، ارتفاع المباني، التي كلما ازدادَ ابتعادُها عن حدودِ الدربِ، ازداد ارتفاعُها. يرتبط كل ذلك، بشكلِ العقارِ، وبمساحته.
الطريق الرئيس الذي دخلتَ منه، احتلت السياراتُ جانبيه. وفي داخلِ الجزيرةِ المبنيَّةِ، السياراتُ في كلِّ مكان. قد تختلفُ ارتفاعاتُ المباني، وتتغيَّر واجهاتُها، وتتغيَّر معها ألوانُ الستائر التي تحجُب كلياً شرفاتُها، حيثُ يختبئ الناسُ خلفها، في طقسٍ أشبهُ بالاختناقِ الطوعي.
قد يختلف كلُّ ذلكَ... إلا أن الثابتَ الوحيدَ، هو أن الطريقَ، والدربَ، والزاروبَ، والفسحةَ، والرصيف إذا وجد، وما تبقَّى من أرضٍ لم تُبنَ...، كل هذه الأمكنة، تشكِّل موقفاً كبيراً للسيارات. وكلما ازدادَ ارتفاع مبنىً، ازداد عددُ السيارات المتوقِّفة في الدرب المؤدية إليه، وفي التراجُعِ الذي يفصُله عن هذا الدرب، وفي أي فسحةٍ هناك.
الاختناق الفعليُّ هنا، هو مؤكدٌ. يحمِله إلى كلِّ الطوابقِ، ويزرعَه في كلِّ الأمكنةِ، هواءٌ مثقلٌ بنسبةٍ عاليةٍ من ثاني أوكسيد الكربون الخانق.
هل من مجالٍ أخضر مخفِّف؟ كلاَّ! وحدها، أشجار الرصيف تخفِّف من حدَّة التلوُّث، ومن خطرِ الاختناق الفعلي. هذا إذا لم تُقطَعْ الأشجارُ هذه، لتقفَ السياراتُ على الرصيف.

5- الخاتمة... أو ما العمل؟

ينتشرُ البنيانُ العاموديُّ البرجيُّ، بنيانُ رأسِ المالِ الكبير والمضارباتِ العقاريَّة، بامتدادِ المدينة العاصمة. يخنقُها في الدروبِ، وفي الزواريبِ والفسحاتِ، وفي كلِّ ما يُوصِلُ إلى البيوتِ فيها. يتسلَّق التلالَ القريبة. يصعدُ إلى القمم.
يحدُّ رأس المال الكبيرِ، وتحدُّ المضارباتُ العقاريَّةُ يحتضنُها قانونُ البناء، من قدرةِ التنظيم المديني.
وتبدو الممارساتُ المعماريَّةُ اليومَ، محكومةً بتأمينِ غلافٍ للمباني، فيه من المشهديَّةِ والإبهارِ، ما يقنِّع هذه الوقائعَ الخشنة.
لقد كان ممكناً لأربعينَ سنةٍ مضت، المحافظةُ على قدرٍ من السيطرة الإيجابيةِ، على شكلِ النسيج المديني في بيروت، وعلى معناه.
أما اليوم، فقد دُفِنَ قلبُ بيروت التاريخيّ في البحر، وطَغتْ بالتدرُّج، على المتبقيِّ من النسيجِ المديني التاريخيِّ، الأداتان المتعايشتان، في التمدُّد الميغالوبولي للمدينة، وهما:
- الانتشار المنفلِتُ الخانقُ للمباني البرجية.
- الأوتوسترادات المتلويِّةِ في أحشاء النسيج العتيق.
فالأداة الأولى، أدَّت وحدها، إلى ارتفاعٍ في أسعارِ الأراضي.
أما الثانيةُ، فقد دفعت هذا الارتفاع إلى مناسيب مذهلة.
دُمِّر قلب بيروت التاريخي، واختنقتِ المدينةُ، وأعلنت «الحِضارةُ الكونيَّةُ» انتصارَها، معلنةً في الوقتِ ذاتِه هزيمة ثقافتِنا... هزيمَتنا. فما العمل؟!
في البدايةِ، نحمي بعضَ الجُيوبِ المبنيَّةِ الجميلةِ، المقاوِمة.
ونبذل كل الجهود، لإجراء تعديلٍ جذريٍّ لقانون البناء.
* معماري لبناني