ليس الجدال المحتدم حالياً بشأن مرسوم «دورة عون» لعام 1994، ذا طابع سياسي فقط، بل هو ذو أساس دستوري و«ميثاقي» (أي طائفي) أيضاً. المسألة لم تبدأ في أواسط الشهر الماضي، مع توقيع المرسوم من قبل رئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء، بل هي تمظهرت منذ بدء معركة الرئاسة الأولى حين دعم الرئيس بري ترشيح النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية متجاهلاً ترشيح عون حتى اللحظة الأخيرة.
بل إن «القصة» أبعد وأعمق من ذلك زمنياً وسياسياً و«ميثاقياً»، لجهة التعبئة التي اعتمدها العمال ميشال عون ضد ما استقرت عليه توازنات السلطة وسعيه لنسف هذه التوازنات أو لتعديلها (على الأقل) لمصلحة الفريق المسيحي. وهذه التعبئة هي امتداد، في الظرف الراهن، لسياسة سابقة، للرئيس عون، في رفض «الطائف» الذي جسدته يومها عبارته الشهيرة: «لن يحصلوا على توقيعي»...في مواجهة تبلور وتكريس معالم واقع جديد وهيمنة جديدة بلور عون، تباعاً، توجهات وشعارات بدأت بمعارضة الإدارة السورية، وصولاً إلى المطالبة باستعادة «الحقوق»، فـ«الإصلاح والتغيير»، وصولاً إلى «الرئيس القوي»... وفي سياق ذلك كان «التفاهم» مع «حزب الله» في شباط 2006 ثم إعلان تفاهم مع «القوات اللبنانية» في ربيع 2016، ثم عقد صفقة، بعد ذلك، مع «تيار المستقبل» ورئيسه سعد الحريري كانت هي الحاسمة في استكمال الأكثرية الضرورية لانتخاب عون إلى سدة رئاسة الجمهورية في آخر تشرين الأول عام 2016.
الأجواء والإجراءات الاحتفالية بانتخاب الرئيس عون شكّلت، هي الأخرى، عنصراً إضافياً في مسار التوجه نحو تحقيق «الشراكة المسيحية» في السلطة. كذلك برزت مبكراً مؤشرات الصفقة مع «تيار المستقبل» ورئيسه، رئيس الحكومة الجديد، وذلك من خلال مرسوم النفط وما انطوى عليه، في جلسة مجلس الوزراء الأولى، من دلالات سياسية وتحاصصية بين تياريّ الحريري وعون بشكل خاص. وتبيّن سريعاً أن ثمة «ثنائية» يجري اعتمادها بين هذين التيارين، وأنها تستوحي بعض وظيفتها من ثنائية ما قبل الحرب الأهلية و«اتفاق الطائف». ثم أنه، إلى «فجعنة» صارخة في الاندفاع للاستحواذ على المواقع الإدارية والصفقات، تميّز هذا التحالف الثنائي، وخصوصاً التيار العوني، على مستوى الإدارة، وحتى السياسة، بأرجحية لرئيس الجمهورية، عززها تراجع نفوذ رئيس الحكومة وتراكم أزماته المالية ما وضعه على شفير الإفلاس العام. خاض الرئيس عون معارك كان معظمها سهلاً (في التشكيلات والتعيينات العسكرية والقضائية والديبلوماسية) واصطدم بعضها باعتراضات كما في صفقة استئجار البواخر التي انطوت على سمسرة فاضحة وربما غير مسبوقة في تاريخ الفساد السياسي والإداري في لبنان... التيار العوني الذي كان يخوض معركة «حقوق المسيحيين» كان يخوضها كمعركة خاصة باعتباره الأكثر تمثيلاً. استعادة تلك «الحقوق» الطائفية كان سيؤول مردودها إليه بالدرجة الأولى في منظومة المحاصصة التي تتبدل توازناتها، وفق شروط خارجية غالباً ومحلية أحياناً، ولكن، جوهرها، لا يحول ولا يزول!
كان الرئيس نبيه بري رجل ما بعد تسوية «الطائف» الأول، كما طُبِّقت في ظل الإدارة السورية التي امتدت رسمياً، عقداً ونصف العقد. وهو طيلة هذه المدة، كان المحاصص الأكثر نفوذاً الذي طاولت حصته، أيضاً، ما يعود خصوصاً للشريك المسيحي. لهذا الأمر بالدرجة الأولى، كان بري الأحرص على النظام والحارس اليقظ لتوازناته التي بدأت بالاختلال بعد فرض انسحاب القوات السورية في أواخر نيسان عام 2005. منذ ذلك التاريخ بدأ يتراجع دوره وتتقلص حصته بضغط من «الشريك السني» بشكل خاص. وهو واجه مع تنامي الحركة العونية وارتفاع النبرة الطائفية وتوطُّد التحالف بين التيار العوني و«حزب الله»، تهديداً بدأ في انتخابات جزين وتفاقم برفض عون «شرعية» التمديد للمجلس النيابي، ثم اندلع مع تسلم عون مقاليد الرئاسة بالتعاون مع الحريري في ثنائية ذكرنا آنفاً أنها راجحة بشكل كبير لمصلحة عون. شهية التيار العوني جمعت ما بين الإلحاح على تطبيق «المناصفة» والحنين إلى مرحلة الامتيازات المارونية التي كانت تجسدها صلاحيات رئيس الجمهورية الذي «يحكم ولا يلي الأحكام»: أي لا يُشارَك ولا يُساءَل! وحيث أن بري كان المحاصص الأكبر والمستأثر كلياً بالحصة الشيعية («حزب الله» نأى بنفسه عن المحاصصة لحساب أولوية المقاومة) بدا الخاسر الأكبر نسبياً من كل التطورات التي تلاحقت منذ عام 2005 حتى يومنا هذا. هنا يقع الحقل الأساسي للصراع ولأسبابه: ما بين محاولة الإبقاء على التوازنات القديمة ومحاولة إبدالها بتوازنات جديدة.
أما العنوان الثاني للصراع، والمتصل بذلك كلياً، فهو في الدستور نفسه. تجسد أبرز جديد دستور «الطائف» في القانون الدستوري المقر في 21/9/1991.
الذي أدخل تعديلاً جوهرياً على صلاحيات رئيس الجمهورية ونقل معظم سلطة القرار من هذا المنصب إلى مجلس الوزراء مجتمعاً. في المبدأ كل أطراف السلطة والحكم متفقون على ديمومة وتأبيد نظام المحاصصة. وهم لذلك، ورغم خلافهم على التوازنات والحصص وحجمها، قد اجتمعوا على ضرب إصلاحات «الطائف» وخصوصاً منها حصر ومحاصرة الطائفية في «مجلس شيوخ» مستحدث، وتحرير مجلس النواب، مصدر السلطات، من الطائفية السياسية. الخلاف بين رئيسي الجمهورية والمجلس ليس على المبدأ بل على حجم الاقتطاع التحاصصي. الرئيس عون وتياره يسعيان للارتداد على «الطائف» (في تطبيقه المشوّه) إلى ما قبله، وذلك عبر تكريس «المناصفة» وشرعنتها وإلى تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية إلى أقصى حد ممكن.
المادة 54 من الدستور بالغة الوضوح لجهة أن «مقررات رئيس الجمهورية يجب أن يشترك معه في التوقيع عليها رئيس الحكومة والوزير أو الوزراء المختصون ما خلا مرسوم تسمية رئيس الحكومة ومرسوم استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة. أما مرسوم إصدار القوانين فيشترك معه في التوقيع عليه رئيس الحكومة». مرسوم أقدمية سنة لـ«دورة عون» لعام 1994 يرتب بالتأكيد أعباءً مالية. فهو ليس مجرد تنويه أو توزيع أوسمة. إنه يعدِّل في دورة ومسار الترقيات والحقوق وفي عدد سنين الخدمة وأفضليات الترقية وترجمتها المالية... لكنه كان اختباراً للتفرد ومحاولة لتسجيل سابقة لمصلحة الثنائية القائمة بين عون والحريري. ويتصل بذلك استمرار تعطيل تعيين 207 أساتذة ثانوي ومراقبين جويين ومحاسبين في الإدارات... كل ذلك بذريعة الاختلال الطائفي، فيما التعيينات والتعاقدات تشهد خللاً مستفزاً وغير مسبوق لمصلحة، تحديداً، أعضاء ومناصرين للتيار «الوطني الحر»، وهم من لون طائفي واحد.
يعتقد المسؤولون في التيار العوني، أن حملتهم حول «الحقوق» قد أثمرت، ولا بأس من المضي فيها لإحداث تعديلات واقعية أو دستورية في توازنات المحاصصة. وعلى أبواب الانتخابات يصبح للتعبئة مكانها الطبيعي لاستنفار العصبيات. ولطالما كان الأمر كذلك وخصوصاً في حالة الخلاف أو افتعال الخلاف في معارك تحديد الأحجام والحصص. وفي هذا السياق يطمئن التيار العوني إلى دعم «حزب الله» الذي يتعرض لضغوط خارجية كبيرة دولية وإقليمية، والذي يحتاج، طبعاً، إلى تغطية سياسية من بيئة كانت، تقليدياً، في موقع المشارك في الضغوط أو العاكس لها على الأقل محلياً.
لن يجلب هذا الأمر، أي تكريس المحاصصة والصراع لتعديل توازناتها، أي خير للبنان وتماسكه واستقراره. لا إصلاح أو تغيير إلا بنظام مواطنة أي بنظام يساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات.
* كاتب وسياسي لبناني