تأججت التظاهرات التي جرت في إيران خلال الأيام الماضية على خلفية تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، فعلى الرغم من الأداء غير المتوقع للتحكم بالتضخم وعودة إيران بقوة إلى سوق النفط، إلا أن استراتيجية الإصلاح الشاملة التي يتبناها الرئيس حسن روحاني، فاقمت الضيق الاجتماعي. فالخطة الخمسية (2016-2021) المعتمدة على ثلاث ركائز وهي: «تنمية اقتصاد مقاوم للصدمات»، «التقدم العلمي والتقني» و«تعزيز التميز الثقافي»، والتي يكمن هدفها في تحقيق معدل نمو سنوي بنسبة 8%، بمثابة برنامج جذري للإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية القائمة على التقشف وتخفيض الميزانيات الاجتماعية.
وعلى الرغم من إشادة البنك الدولي بهذه الجهود، معتبراً أن خفض الدعم على المنتجات الأساسية خطوة مهمة نحو «تحسين تدريجي لفعالية الإنفاق العام وللنشاط الاقتصادي»، إلا أن الانخفاض الهائل في المؤشرات الاجتماعية في بلد تقترب نسبة البطالة بين الشباب من 27%، يُشكّل أحد عوامل عدم الاستقرار السياسي. إذ تُخضع منظمة الحوكمة الاقتصادية العالمية، حاملة راية النظرة المتشددة للنيوليبرالية، مبدأ النمو الاقتصادي على المدى المتوسط والطويل لهذا النوع من الإصلاحات الهيكلية (ولا سيما في القطاع البنكي لجذب الاستثمارات الأجنبية)، ولكن أيضاً ضمن «وتيرة إعادة إدماج إيران في الاقتصاد العالمي». لكن حتى هذه اللحظة، لم تتحقق بعد تقديرات روحاني التي عوّل عليها في يناير 2016 بجذب 50 مليار دولار استثمارات أجنبية جرّاء رفع العقوبات المتوقعة ضمن إطار «خطة العمل الشاملة المشتركة (جكبوا)» حيث قدر تقرير الاستثمار العالمي لعام 2017 الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة حول التجارة والتنمية المنشور في شهر يونيو الماضي، أن حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة عام 2016 وصل إلى 3.4 مليارات دولار فقط، وظلت منخفضةً جداً عن تقديرات الرئيس الإيراني حتى الآن.
في الواقع، تصطدم هذه السياسات التي تستهدف جذب الاستثمارات الأجنبية باستراتيجية نسف الاتفاق النووي التي يقودها دونالد ترامب، الذي قرر سحب المصادقة الأميركية عليه في 13 تشرين الأول الماضي، ولكن أيضاً بتجاور نظم مختلفة حادة من العقوبات المفروضة بواسطة الولايات المتحدة.
وفي إطار السياسة العدوانية التي يقودها ترامب، فإنه يمكن خلال الأسابيع المقبلة اعتماد تدابير انتقامية جديدة تتعلق بالبرنامج الباليستي لإيران المستهدف بالفعل من قبل آلية عقوبات كبيرة مع تطبيق قانون مواجهة خصوم أميركا من خلال العقوبات في 2 أغسطس الماضي. هذا التعزيز المستمر للترسانة القضائية الأميركية يشرح إلى حد كبير التباطؤ الشديد للمستثمرين الأوروبيين في دخول السوق الإيرانية.
ويجدر في حقيقة الأمر التذكير بأنه إذا كانت العقوبات المتعلقة بالبرنامج النووي قد رفعت بموجب اتفاق 14 يوليو 2015، إلا أنّ العقوبات المتعلقة باحترام حقوق الإنسان وتمويل النشاط «الإرهابي»، والبرنامج الباليستي، تتصدر أكثر من أي وقت مضى عناوين وسائل الإعلام الحالية، فتشديد هذه العقوبات في مجالات التبادل المالي والدفاعي والطاقة كوسيلة رئيسية للضغط السياسي على النظام الإيراني، ليس بالتالي غريباً عن تردد الأوروبيين عن التعامل التجاري مع إيران، وخصوصاً أن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية المكلف بتطبيق القوانين الأجنبية يحافظ على ضبابية الممارسات المسموحة نفسها.
وللوهلة الأولى، فإن القانون الأميركي يطبق على الشركات التي يسيطر عليها الـ«شخص الأميركي» وعلى جميع المنتجات التي تشتقّ مكوناتها من إنتاج أميركي، لكن المعايير الملحقة لهذه الفئة أكثر مكراً، فكما تشدد «BankObserver»، وهي مدونة لاستشاريين يوجهون الجهات المالية إلى اختياراتهم الاستثمارية، فإن هذا المفهوم يفتقر إلى الوضوح لأنه يمكن أن يتعلق في آن واحد بدافعي الضرائب الأميركيين وكذلك بالكيانات «التي أحد مؤتمنيها يكون شخصاً أميركياً». بمعنى آخر، كل شخص أو شركة أو بنك عقد عملاً تجارياً مع «شخص أميركي»، يمكن أن يندرج أسفل العقوبة في حالة عدم احترام القوانين الأميركية. فبمجرد إجراء مدفوعات بالدولار أو امتلاك الجنسية الأميركية، يسمح لمكتب مراقبة الأصول الأجنبية بشن تحقيقات.
ففي حين أن رفع العقوبات سمح بإعادة اتصال جميع البنوك الإيرانية بنظام «سويفت» الذي يسمح من جديد بالتحويلات النقدية، إلا أن أي معاملات مالية تجرى بالدولار مع شخص أو كيان إيراني لا تزال محظورة وفقاً لأحكام قانون العقوبات على إيران الذي تم اعتماده في ديسمبر 2016. ومن ناحية آخرى، فحتى من أجل التحايل على الحظر، فإن مستثمرين أوروبيين جريئين اختاروا إجراء العمليات باليورو، لكن ينبغي أيضاً عليهم التأكد من أن شريكهم الإيراني ليس على قائمة «أس دي أن» (المواطنون المصنفون خصيصاً) التي يحدثها مكتب مراقبة الأصول الأجنبية بانتظام، والذي يحظر علاقات تجارية مع أكثر من 15 ألف شخص وكيان إيراني (6 آلاف من اللائحة الخاصة بالولايات المتحدة والباقون من لائحتَي الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة)، وأمام حقل واسع يحظى بزخم تطبيق القوانين الأميركية، والزيادة المذهلة في رقم العقوبات، فإن الشركات الأوروبية التي تخاطر بالاستثمار في إيران، من الممكن أن تفقد وصولها إلى السوق الأميركية والتعاملات بالدولار، والسوابق تكفي لإثباط عزيمة أكثر المغامرين. ألا يجدر أن نتذكر عام 2014، حينما اتهم بنك «بي أن بي باريبا» بتحدي حظر استخدام الدولار في المعاملات مع الدول تحت الحصار، وأدين من قبل القضاء الأميركي بغرامة 8،9 مليارات دولار؟ «كريدي أغريكول» حُكم عليه هو الآخر في 2015، بغرامة 783 مليون دولار لتسهيل تعاقدات بالدولار مع أشخاص وكيانات تقع خصيصاً في إيران وكوبا والسودان وبورما. آخر هذه السلسلة، كان في ديسمبر 2016، حينما أدين البنك الإيطالي «أنتسا سان باولو أس بي أيه»، بغرامة 235 مليون دولار على أساس أنه درّب موظفين لإخفاء أنشطة مالية تورط إيران.
ورغم عدم شعبية سياسة ترامب التي تلحق ضرراً بالمصالح الاقتصادية للعديد من الدول الأوروبية، إلا أن جهات مالية فاعلة قليلة جداً هي التي تميل إلى مواجهة آلة الحرب القضائية الأميركية من أجل تنمية تعاملات مع إيران. وهذا ما كشفه الدبلوماسي الإيطالي والسفير السابق في إسرائيل (2002- 2004)، جيوليو تيرزي في مقال هاجم فيه، رغم ذلك، السياسة الأوروبية تجاه إيران (نشره موقع Le Cape de Jérusalem بتاريخ 22 نوفمبر 2017)، كرر فيه التحفظات المسجلة خلال منتدى أوروبا ــ إيران الذي استضافته زيوريخ في أكتوبر الماضي. «في الواقع، في حين أن منتدى أوروبا ــ إيران يجمع أكثر من 400 مسؤول ورجل أعمال للترويج للفرص في السوق الإيرانية، ذهبت الاستنتاجات في الاتجاه المعاكس. فثلثا الأشخاص الذين طرحت عليهم الأسئلة، شددوا على مخاوفهم المتزايدة وتشاؤمهم من المضي في هذا الطريق. وظلت الأسباب الرئيسية وراء ذلك هي نتائج عقوبات أميركية محتملة وعدم امتثال البنوك الإيرانية للقواعد والمعايير الدولية. وهذا هو من المرجح السبب الرئيس وراء عدم مشاركة البنوك الدولية الكبرى في هذا المنتدى»، يوضح تيرزي الذي شغل أيضاً منصب وزير الخارجية الإيطالي.
وأمام عجز الاتحاد الأوروبي عن القيام بدور حاسم في إعادة تأسيس علاقات اقتصادية ودبلوماسية مع إيران، وكذلك حماية شركاتها الممتدة خارج الحدود من القانون الأميركي، فإن رهان روحاني بدا خطيراً. فإجراء إصلاحات نيوليبرالية جذرية تتحدى التوازنات الاجتماعية الكبرى في إيران تحت ذريعة أن هذه التدابير سوف تحفز عودة المستثمرين الأوروبيين، هي ليست فقط استراتيجية ثبت عدم فعاليتها ومكلفة اجتماعياً حتى الآن، ولكنها أيضاً من الممكن أن تكون قنبلة موقوته حقيقية. لذا، من الضروري لإيران في الوقت الحالي أن تبدأ تفكيراً حقيقياً في شكل نموذج التنمية الاقتصادية التي ينبغي أن تسير عليه، وكذلك اختيار الشراكات من أجل تحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى. دول مثل الصين وروسيا اللتين عزّزتا سياستهما الصناعية في القطاعات الاستراتيجية التي تستخدم منصات مقوّمة بعملتهما الوطنية، ترافقها تنمية بنية تحتية غير خاضعة لشبكة الإنترنت، والتي تقلّل بالتالي أيضاً إدخال مكونات أميركية في سلسلة إنتاج بضائعهم، تبرز كشركاء استراتيجيين أكثر استقلالية وموثوقية من الأوروبيين المنغلقين في أدوار «التابعين» في تناقض تام مع مصالحهم الاقتصادية.