يعمد كثيرون من دعاة الاشتراكيّة إلى انتقاد الرأسماليّة بوصفها نظاماً من الأزمات المتتابعة، ويدّعي تيّارهم الغالب أن تناقضات المنظومة الداخليّة للرأسماليّة لا بدّ من أن تقضي عليها يوماً ربما من دون الحاجة إلى أي تحوّل ثوريّ اشتراكيّ عالميّ جديد. لكن تلك النظرة لا تمتلك رصيداً كافياً في عالم الوقائع الملموسة على الأرض.
فالمنظومة الرأسماليّة الحديثة لا تزال قادرة على النمو والتوسع منذ بداياتها الأولى في قلب إقطاعات أوروبا العصور الوسطى ــ ثم انتصارها السهل حينذاك على الأرستقراطيّة لمصلحة البورجوازيّة الصاعدة ــ إلى أيامنا هذه، رغم أزماتها المتكرّرة التي لم تقدر أيّ منها على إبعاد الرأسماليّة عن مكانة النظام البشري الأعلى تطوراً في التاريخ.
وللحقيقة، إن ماركس وإنجلز في «المانيفستو الشيوعي» تحدثا عن كيف «أن البورجوازيّة خلال عهدها الذي لا يزيد على مئة عام راكمت قوى إنتاجيّة هائلة تفوقت على كل ما أنتجته البشريّة قبلها مجموعاً».
الرّأسماليّة اليوم، ولا سيّما في غياب أيّ مشاريع بديلة جادة وفي ظل تماهيها مع الإمبراطوريّة الأميركيّة الأعظم، هي أبعد ما تكون عن أن تقضي بسبب أزماتها، وقد أثبتت الأحداث المتعاقبة أنها تنتقل من موضع قويّ إلى موضع أقوى بفضل التقدم غير المسبوق في تحسّن الإنتاجيّة الذي تتيحه التطبيقات التكنولوجيّة الحديثة، ونجاحها الهائل في نشر نموذج التحضّر (الاستهلاكي) إلى أوسع نطاق ممكن عبر قارات العالم أجمع.
التوقعات الكئيبة، التي درج عليها اليسار بشأن مستقبل الرأسماليّة وموتها المحتّم، كانت ممكنة ربما على الصعيد النظري عندما كان رأس المال الخاص وملكيّة وسائل الإنتاج في أيدي أفراد وسلالات قليلة قد ينتهي سعيها اللانهائي لتعظيم الأرباح ــ من خلال تحسين الإنتاجيّة وتوسعة الأسواق ــ إلى حد الانفجار. لكن طبيعة رأس المال تغيّرت في الرأسماليّة المتأخّرة، وأصبحت البشريّة في معظمها في مواجهة منظومة متكاملة من الذكاء الاصطناعي الذي تكمله نخب تقنيّة رفيعة التأهيل تعيش فوق سيادة الدّول وارتباطات الشعوب، وتدير عجلة الإنتاج العالمي بكفاءة متسارعة، بينما تضمن إخضاع الكتل الشعبيّة بحاجة الأخيرة إلى الاستهلاك المتصاعد وإدارة المنظومة للدّيون المؤسساتيّة والفرديّة على حد سواء، عبر أشكال نقديّة غامضة لا تشبه النقد السائل بشيء.
لم تعد الأزمات لهذه المنظومة المتكاملة بمنزلة تهديدات وجوديّة، وإنما هي جزء لا يتجزأ من ديناميّات العمل، بل هي تكسب المشروع الرأسمالي مناعة وقوة متزايدتين في مواجهة الأزمات اللاحقة كما لو كانت أمصال وقاية لا أكثر تتعب الجسم لمدة قصيرة، لكنها تسمح له بإعادة تنظيم نفسه على نحو أكثر فعاليّة، وتمنحه استمراريّة لا نهاية لها في أفق قريب. فليس هناك أزمة شاملة دائمة في المنظومة الرأسماليّة، وإنما هي تقلصات وفقاعات تضمن المسار التصاعدي العام ولا تؤخره.
بالطبع، إن بعض الصناعات في المجتمعات المتقدمة وكذلك بعض الدول الطرفيّة والأفراد يفقدون قيمتهم في إنتاج فائض القيمة الكلي للمنظومة بسبب سوء التشبيك مع الاقتصاد العالمي، ولذا ينتهي بعضها إلى الاندثار، أو التحوّل إلى دول فاشلة أو إلى البطالة ــ على صعيد الأفراد ــ ذلك إن لم تقدر على إجراء إعادة نظر منهجيّة في تموضعها ضمن السلسلة الإنتاجيّة، وغالباً بتكلفة مؤلمة. لكن ذلك في إطار المشهد الكلّي للمنظومة ليس إلا بمنزلة تحسن نوعي في كفاءة الإنتاج، ومن ثم تراكم أكثر في رأس المال وقوته.
وفي الحقيقة إن أزمات اقتصاديّة حادة عدة مثل مرحلة الثلاثينيات والثمانينيات من القرن الماضي إنما كانت أزمات بطالة ضربت القوى العاملة من دون أن تكون أزمات لرأس المال نفسه، بل ربما دفعت باتجاه تحسين الإنتاجيّة عبر حلول تقنيّة متقدمة تستغني عن العمالة المكثفة وتدفع بالأجور إلى حدها الأدنى كمدخل للإنتاج، مع تأثيرات عميقة في أنماط العيش وطرز الاستهلاك على نحو سمح بالتحضير لانتعاش لاحق في الأسواق ينجم عنه دائماً تحسن لافت في الأرباح.
هل انتهى التاريخ إذاً، ووصلت البشريّة إلى منتهاها في منظومة الإنتاج الرأسمالي المتأخر؟ ليست المهمة أمام القوى الاشتراكيّة اليوم أن تشن ثورة إلغاء للنظام الرأسمالي واستبداله بشيء جديد تماماً، فهذه مسألة لم تعد ممكنة على الصعيد النظري ولا العملي. مهمة الاشتراكيّة والاشتراكيين اليوم هي في أن يبنى على التطورات غير المسبوقة في الإنتاج والتطور التقني وترابط الشبكات التي قدمتها الرأسماليّة خلال السنوات المئة الأخيرة بوصفها الأدوات الأساسية لبناء قاعدة نظام بديل صار اليوم أقرب ما يكون إلى الواقعيّة والإمكان أكثر ربما من أي وقت مضى، وبفضل الرأسماليّة بالتحديد.
ليس هذا بالطبع تفاؤلاً في غير وقته. فإمكانيّة الاشتراكيّة كنظام عالمي أعلى من الرأسماليّة ــ لا نقيض نافياً لها ــ متضمنة نظريّاً في حالة العالم اليوم، وبالتأكيد ليس ما يمنع التصاعد نحوها سوى غياب الطاقة والإرادة لتحويل تلك الإمكانيّة إلى واقع عبر مواجهة حالة الهيمنة التي تمثلها أساساً الإمبراطوريّة الأميركيّة، وبدقة المجمع الصناعي ــ العسكري ــ الإعلامي الموهوم الذي يدير تلك الإمبراطوريّة، التي تؤمن ولو على حساب طبقتها العاملة ذاتها قبل شعوب العالم الأخرى فرض صيغة إمكانيّة واحدة على الوجود البشري، أي رأسماليّة معولمة متوحشة تمسك بخيوطها بدقة، من دون أي إمكانات أخرى بديلة.
غياب الطاقة هذا ليس قدراً، رغم ارتداد مناضلين كثرعلى الطريق، بل قد رأينا نماذج مختلفة خلال السنوات الخمسين الأخيرة تبشر بإمكان تعاظم الطاقة إلى مستويات، إن استمرت، فإنها قد تمنح البشريّة على المدى المتوسط الإرادة لتحقيق تغيير شامل؛ تجربة صعود الصين الهجينة بين نظام سياسي قوي ينظم النشاط الرأسمالي الجمعي ويحقق التشبيك مع المنظومة الرأسماليّة العالميّة في موازاة تحسن عام في مناحي العيش لم يتحقق ولا حتى في أزهى أيّام الإمبراطوريّة الصينية القديمة، التجارب الاشتراكيّة غير الناضجة تماماً ولكن الصامدة في كوبا وفنزويلا، تجربة الاتحاد الأوروبي التي منعت نشوب حروب في قارة شهدت حروباً مستمرة عالميّة وإقليمية طوال النصف الأول من القرن العشرين وتحولت إلى نموذج متقدم، رغم عيوبه، في اتخاذ القرارات الجماعيّة وضمان حدود دنيا لرفاهيّة مواطنيه وحسن عيشهم وأخرجهم نظريّاً من هيمنة الأميركي المباشرة على دولهم المنهكة بسبب الحروب الكبرى.
وأيضاً فشل المشروع الأميركي في إسقاط سوريّا والنتائج الهيكليّة الإيجابية المتراكمة على الاقتصاد الروسي الكلي رغم الحصار الغربي، النفوذ (الرأسمالي) الصيني والروسي المتزايد في أفريقيا وآسيا من دون شروط الأيديولوجيا المحضة، صمود دولة معزولة مثل كوريا الشماليّة وامتلاكها أدوات الرّدع النووي، انتعاش تيارات اليسار الاجتماعي وأحزاب الخضر في معظم دول الغرب بما فيها الولايات المتّحدة نفسها نتيجة فشل النخب الحاكمة المحليّة المحتّم في امتلاك المبادرة والخيال اللازمين لإدارة الصعود نحو إمكانيّة أخرى أكثر عدالة، أو اشتراكيّة إذا شئت، بغض النظر عن التسميات.
فوق ذلك كله، إن إنجازات الرأسماليّة نفسها في مجالات تقنيات التواصل والوصول إلى المعارف ــ رغم كل محاولات التحكم بها من النخبة الأميركيّة ــ تعطي الأفراد قدرات غير مسبوقة على تطوير فهمهم العالم والترابط عبر الأماكن والأزمنة لبناء شبكات تطوعيّة هائلة قد تكون قادرة في لحظة ما على خلق الطاقة الكافية لاستعادة المبادرة والإرادة للتقدم، واستبدال الوضع القائم بإمكانية أخرى.
إن التقاء إرادة عدد صغير من البشر كان دوماً السر في كل تغيير ثوري حاسم في تاريخ البشريّة. لا شيء يمنع التقاء إرادة الملايين بمن فيهم غالبية من الأميركيين العاديين، لتحويل اليوم إلى غد أفضل، وذلك بتحييد تلك النخبة الأميركيّة الموهومة التي تتعاطى أوهام «أورشليم الجديدة». عندها سيكون التحول نحو اشتراكيّة علميّة مسألة وقت لا أكثر.