منذ أن كان «السلطان سليم» يدير شؤون الرعية إلى جانب شقيقه الرئيس بشارة الخوري، كانت المعارضة. حين مدّد الخوري لنفسه، بعد انتهاء ولايته الأولى، تحركت المعارضة وأسقطته. عام 1958 ثارت المعارضة في وجه الرئيس كميل شمعون.بين الشهابيين والحلف الثلاثي، سلطة ومعارضة. وقبلها بين الدستوريين والكتلويين. كانت المعارضة حاضرة بقوة، بزعمائها رشيد كرامي، صائب سلام، كمال جنبلاط وحتى شمعون نفسه. من بشارة الخوري إلى الرئيس أمين الجميّل، مروراً بشارل حلو وسليمان فرنجية، وصولاً إلى فترة تولي العماد ميشال عون الحكومة الانتقالية، لم يخرج المشهد السياسي عن قاعدة جوهرية تكمن في بقاء المعارضة ركناً أساسياً يعطي للحياة السياسية في لبنان الذي كان يتغنى بأنه يستقبل المعارضين العرب، نكهة مختلفة.

في الحرب تنقل مسيحيون ومسلمون، أحزاباً وشخصيات، بين المعارضة والموالاة بحسب تطور الأحداث السياسية ومسارها المحلي والإقليمي. وفي عزّ الوجود السوري، نشأت المعارضة وتكونت من أحزاب وشخصيات فاعلة. في مرحلة السلم وعهد الرئيس الياس الهراوي، كانت المعارضة متنوعة، بعد نفي عون وسجن الدكتور سمير جعجع: يمينيون ويساريون، عونيون وقواتيون، وشخصيات سياسية مستقلة وحتى من الموالين الذين أصبحوا معارضين. فهل يمكن أن ننسى كتاب الانقلاب على الطائف للوزير ألبير منصور، وعشرات المداخلات لنواب ضد سياسة القمع والفساد حينها، أو معارضة الرئيس حسين الحسيني. وهل يمكن أن يحكى عن عهد الرئيس إميل لحود، من دون ذكر معارضة قرنة شهوان، أو أحداث 7 آب حين تظاهر مناصرو التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية والكتائب وسُجنوا وحوكموا؟
لم تكن المعارضة حكراً على فئة، وإن اختلفت أساليب التعبير والأهداف السياسية والاقتصادية. اعترضت بكركي ــ البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، على الوجود السوري، لكنها اعترضت أيضاً على أداء حكومات الرئيس رفيق الحريري السياسية والاقتصادية. وكذلك فعل حزب الله. كان حزب الله معارضاً لسياسات ونهج اقتصادي استمر لسنوات في عهد الحريري. وكان وليد جنبلاط معارضاً لممارسات النظام السوري ولكثير من خطط الحريري الاقتصادية. وكان نواب وقياديون من اليسار يعارضون سياسة اقتصادية ومالية تمعن في نهب البلد. جلسات مجلس النواب في ظل أصوات نسيب لحود، فارس سعيد، نايلة معوض، بيار الجميِّل، نجاح واكيم، عكست جمالية وحيوية سياسية، واستمرت بوجوه مختلفة حتى بعد 2005، مع الانقسام السياسي الحادّ. فظلّت معارضة التيار الوطني الحر لسياسة الرئيس فؤاد السنيورة الاقتصادية، وعارضت القوات وشخصيات سياسية حزب الله. حتى المستقبل سلك سبيل المعارضة لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي.

ثمة جنوح حادّ نحو رفض الأصوات المعارضة، داخل الحكومة وخارجها


على أبواب انتخابات عام 2018، وبعد مرور 15 شهراً من عمر العهد، وسنة من عمر الحكومة، تكاد أصوات المعارضة تغيب، فتعطي للحياة السياسية معنىً آخر لم نألفه سابقاً، الى حد أن خلاف الرئيس نبيه بري ومعارضته رئيس الجمهورية، واعتراض حزب الكتائب على أزمة النفايات، أعطيا بعض الحيوية للجو السياسي العام.
تكثر الخلافات السياسية داخل الحكومة ومجلس النواب، لكنها تبقى خلافات سياسية فحسب. فالقوات تختلف مع شركائها، لكنها ليست معارضة، والمردة يعارض أداء العهد، لكنه ليس معارضة، ما دام الطرفان ينضويان تحت جناح حكومة الوحدة الوطنية. في المقابل، ثمة جنوح حادّ نحو رفض الأصوات المعارضة، إن كان من داخل الحكومة أو خارجها. وقد تبدو من المظاهر اللافتة الأخيرة، أن نواة السلطة السياسية الحالية والتسوية الرئاسية، أي التيار الوطني الحر والمستقبل وحزب الله، أحزاب أحادية في تركيبتها، لا تتقبل بطبيعتها الأصوات الاعتراضية. فحزب الله لا يقبل أي اعتراض على قضية سلاحه أو وجوده خارج لبنان. والتيار الوطني الحر ليس قادراً على امتصاص الاعتراضات، أو على ممارسة ديموقراطية فاعلة كما حصل في إدارة شؤونه الداخلية، بدليل أن نواباً وقياديين في التيار الوطني كانوا في صلب المعارضة، باتوا اليوم يمتعضون من أي صوت معارض ويتأففون من أي تحرك أو كلام يقال ضد مشاريع التغيير والإصلاح ومحاربة الفساد. بدوره تيار المستقبل لم يتقبل يوماً أي انتقاد أو معارضة، خصوصاً حين يتعلق الأمر بنهج الرئيس رفيق الحريري الاقتصادي وإدارته. وقياديو تيار المستقبل يرفضون أي خطاب سياسي يعارض نهج الرئيس سعد الحريري، وبالأخص إذا صدر عمّن هم من السياسيين الذين رافقوا الحريري الأب، أو من رفاق ثورة الأرز السابقين. لا يعني ذلك أن إدارات الأحزاب الأخرى أكثر ديموقراطية، لكنها ظلت في الإطار السياسي العام تعبّر عن اعتراضاتها السياسية بالحد الأدنى.
السؤال: هل تغييب المعارضة جذرياً هو إحدى الأدوات الأساسية في خوض انتخابات عام 2018، بما يتعدى التنافس الانتخابي بين القوى السياسية؟
قد يكون هذا أحد التحديات الأساسية في الانتخابات النيابية، لإنتاج مجلس نيابي. فإما أن يكون ممسوكاً من أطراف التسوية الرئاسية، أو متنوعاً يُبقي للبرلمان اللبناني إطاره الديموقراطي التاريخي، بما يحتم على المعارضين الحقيقيين استعادة دورهم بجدية قبل الانتخابات، لأن ما يحصل من خلال تركيب أولى التحالفات، أي مفاوضات المرشحين مباشرة مع رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل، أو مع حزب الله ونائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم، أو الرئيس الحريري، يعطي إنذاراً لما يمكن أن تكون عليه الحياة السياسية التي يقبل عليها لبنان. فمجلس عام 2018 يفترض أن يكون مجلس الموالاة، موالاة العهد بكل تركيبته، موالاة الحريري بنسخته الجديدة بعد التسوية الرئاسية وعودته من السعودية، وهو مشهد الموالاة مع حزب الله، واستطراداً الرئيس بري. وعلى هذا الأساس تُجرى المفاوضات. وعلى هذا الأساس يفترض أن تتكون نواة المعارضة.