خسر الإسلاميون بمختلف تصنيفاتهم في الجزائر المزيد من مواقعهم في المجتمع والمؤسسات التي يجري حولها دورياً تنافس انتخابي، ولم يكسب الديمقراطيون بمختلف تصنيفاتهم أيضاً أي موقع جديد. ففي أي طاحونة تصب خسارة الإسلاميين؟من دورة انتخابية لأخرى يزيد نزيف الإسلاميين ويزيد معه نواحهم وشكاواهم من تزوير النتائج من قبل الإدارة المتهمة على الدوام بالانحياز لحزبي السلطة: جبهة التحرير والتجمع الديمقراطي.

يتحمسون في بداية كل عملية انتخابية ويعقدون مهرجانات يدعون فيها للمشاركة الكثيفة وعند نهايتها يصرحون علناً أنها لم تكن نظيفة ولا نزيهة. يصرخون ويشجبون إلى أن يجددوا العهد ـ مفككين منقسمين ـ مع انتخابات جديدة يشاركون فيها لا يجنون منها غير مبررات للنواح.
انقسام الإسلاميين إلى نحو عشرين تنظيماً بدأ حين قرّر عباسي مدني وعلي بن حاج وعبد الله جاب الله والعقيد في جيش التحرير زمن الثورة محمدي السعيد وآخرين، سرّاً في آخر ثمانينيات القرن الماضي تأسيس حزب سياسي يسعى للوصول إلى الحكم عبر الانتخابات. وقتها كان الإسلاميون مجتمعين في هيئة واحدة باسم «الرابطة الإسلامية» كان على رأسها الشيخ أحمد سحنون الذي نجا عام 1996 من محاولة اغتيال قام بها مجهولون داخل مسجد في العاصمة الجزائر. وقفت وجوه من «الرابطة» ضد مسعى «تحزيب الإسلام» وإدخاله في متاهة منافسة أحزاب سياسية على مقاعد برلمانية أو محلية أو رئاسة. ومبرر رفض المسعى أن الإسلام أكبر من أن ينافس على المقاعد وأنه دين كل الجزائريين لا يعقل أن تسجنه مجموعة بين قضبان قانون حزبي. وأن التحزيب يفتّت فيما روح الإسلام هي جمع الناس حول الفضائل إلى ما هنالك من تبريرات. ودعت إلى مواصلة العمل الدعوي وحين يبلغ مداه تكون الدولة مطابقة للشرع مهما كان من يرأسها. وهو نهج جمعية العلماء المسلمين في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي حيث اعتمدت سياسة التكوين والتعليم عبر زرع عدد كبير من المدارس في مختلف أنحاء البلاد تدرّس باللغة العربية وتنشر ما تسميه علوم الدين لتكريس التميّز عن المجتمع الأوروبي الذي كان يعيش في الجزائر في ظل سياسة الاستعمار الاستيطاني. لكن جماعة عباسي قررت واجتمعت في مسجد القبة وأعلنت تأسيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ وسط حشد من الاتباع معظمهم شباب. وكان أول المنشقين عبد الله جاب الله بعد رفضه المنصب الذي أوكل اليه في الحزب. وقتها برر علي بن حاج وهو شاب في بداية الثلاثينيات من العمر ويشتغل مدرساً في مدرسة إعدادية، الإقدام على هذه الخطوة لكون التاريخ لا يرحم الإسلاميين إن فرّطوا في الأمة وتركوها بيد عصاة. ومن أشهر مقولاته أن «النظام صار في وضع الملاكم الذي تلقى ضربات موجعة ومؤثرة بفعل الاحتجاجات الشعبية في أكتوبر/ تشرين الأول 1988 وأنه ساقط لا محالة وإن لم يشتغل المسلمون هذه الفرصة لاقامة شرع الله فإن الشيوعيبن الذين يملكون أذرعاً في كل مكان سينقضون على الحكم ويصعب اقتلاعهم لاحقاً». كان كلام علي بن حاج محفزاً وجذاباً لكل من يرغب في العيش تحت جناح الحكم ومن يطمع في المنافع بصرف النظر عن توجهه.

خلال 29 عاماً من
التعددية السياسية،
انقسم الإسلاميون عند الإعداد لكل عملية انتخابية

فاندفعت الجموع بمن فيهم آلاف من المنتفعين من النظام يحملون بطاقة الانخراط في جبهة التحرير الوطني التي كانت حزباً عنصرياً لا يسمح قانونها الداخلي بأن يتولى المسؤولية على أي مستوى كان وفي أي قطاع كان، شخص من غير المنتمين إليها. جبهة التحرير في ظل حكم الشاذلي بن جديد اختصرت الجزائر في أعضائها ودخلها كثيرون فقط من أجل المناصب والمنافع. ومع أن تيار الإخوان المسلمين الذي يقوده محفوظ نحناح، وهو فنان سابق يشارك في تمثيليات في الإذاعة الجزائرية، وتحول إلى الدعوة وسجن في السبعينيات، كان قد عارض في البداية التحزب لكنه لما رأى أن الخطاب الديني يمكن أن يُكسِب سياسياً وبأسرع وقت تقدم هو الآخر بملف لتأسيس حزب سياسي باسم «حركة المجتمع الإسلامي ـ حماس» تبرّكاً بحماس الفلسطينية. وكانت البداية بتحويل آلاف من المنتسبين إلى جمعية دينية كان يقودها مؤسس التيار آلياً إلى منتسبين حزبيين.
خلال 29 عاماً من التعددية السياسية في البلاد، انقسم الإسلاميون عند التحضير لكل عملية انتخابية بفعل تناقضات المصالح والمكاسب. فصار الإخوان المسلمون ثمانية أحزاب وانقسم السلفيون إلى شيع انضم بعضها إلى ما صار يسمى «أحزاب السلطة»، وأسّس آخرون أحزاباً جديدة وبقي بعضهم بلا تنظيم في انتظار عودة الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى الساحة.
وتحالفت «حماس» التي صارت «حمس ـ حركة مجتمع السلم» بعد صدور قانون منتصف التسعينيات يمنع عبارات الانتساب للدين والعرق والجهة على تسميات الأحزاب وبرامجها، مع السلطة منذ عام 1995، بعد خسارة مرشحها محفوظ نحناح لكرسي الرئاسة أمام الجنرال المتقاعد اليمين زروال. وظلت وفية للبرنامج الرسمي الذي يطبقه وزراء منها إلى أن انسحبت من الحكم عام 2012 على أمل قيادة «ربيع عربي» محلي يجعلها تنفرد بالحكم. وشجعها على هذا التصرف خاصة ظهور تيار الاخوان ـ الذي تنتسب اليه ـ كقوة بديلة رئيسية في عدة دول خاصة تونس والمغرب ومصر.
بالعودة إلى سؤال البداية، فقد أثبتت الانتخابات أن خسارة الإسلاميين تصب في طاحونة النظام. طاحونة من يحكمون ويتحكمون في المنافع المادية. مردّ فوز حزبي السلطة ـ جبهة التحرير والتجمع الديمقراطي ـ الساحق على الإسلاميين وبقية القوى التي غدت مشاركتها في الانتخابات صورية فحسب، عاملان أولهما تراجع خطاب كل المعارضة بمختلف أطيافها وتيهانها وغرقها في أمور صغيرة شغلتها عن صياغة برامج تقنع الناس. وثانيهما تراجع الفعل السياسي برمته خاصة الإقبال على الانتخاب. فقد تقلصت نسب المشاركة المعلنة رسمياً باستمرار، ولم تتعدّ في كل الانتخابات من عام 1977 حتى الآن ـ حسب الأرقام الرسمية المعلنة من وزارة الداخلية والمجلس الدستوري ـ سقف 46 في المئة في أحسن الدورات وحدث أن نزل الرقم الى 35 في المئة. وصارت بفعل العزوف العام على المشاركة كل الأحزاب بما فيها التي تنال معظم المقاعد في البرلمان والمجالس المحلية أقليات أمام «حزب الأغلبية». ولقد دفعت الخيبات الانتخابية بالأحزاب الإسلامية الى تشكيل أحلاف قدمت قوائم موحدة في الدورتين الانتخابيتين الأخيرتين في 2012 و2017. لكن الأحزاب المحسوبة على التيار الديمقراطي ظلت متفرقة ولم تتمكن من التقارب بل وبعضها تشرذم إلى تنظيمات مثلما هو الشأن بالنسبة للتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية الذي انشق عنه تنظيم جديد باسم «الحركة الشعبية الجزائرية» وصار يساويه في عدد النواب في البرلمان والمجالس، وكان التجمع حليفاً للسلطة أيضاً، وأيّد ترشيح عبد العزيز بوتفليقة في العهدة الأولى عام 1999 وشارك في الحكومة بوزيرين أحدهما عمارة بن يونس، الذي صار قائداً للمجموعة المنشقة وتم تعيينه مجدداً وزيراً لكن باسم حزبه الجديد. ولم تسلم جبهة القوى الاشتراكية، التي كانت في وقت ما أكبر أحزاب المعارضة غير الإسلامية، إذ انشق منها حزب جديد بقيادة أمينها العام السابق كريم تابو وكوّن حزباً مخالفاً في الاسم مماثلاً في السياسة. فلماذا عجز الديمقراطيون عن تحسين مكانتهم في المجتمع إلى مستوى يرشحهم بديلاً للنظام القائم في زمن أفول نجم الإسلاميين؟ هو ذا السؤال الكبير الذي ربما احتاجت الإجابة عنه الى عقد «مؤتمر ديمقراطي» يدرس ظاهرة الانتقال من نظام الحزب الواحد إلى نظام طاحونة واحدة تستوعب إفرازات الخلاف.
* كاتب جزائري