يصح تسمية شارع السان تيريز بشارع المفارقات الديموغرافية. أولاً: يتفرع من الحدث. ثانياً: يصل إلى الجاموس في الضاحية الجنوبية. ثالثاً: سكانه غالبهم من الشيعة. رابعاً: محاله التجارية تستهدف طبقةً اجتماعية يجوز وصفها بالمتوسطة. وهناك خامساً وسادساً. لكن ثمة ما هو أساسي في حسابات المقيمين: لقد ظهر الحيّ على صورته التي نعرفها الآن بعد حرب تموز.
نتحدث، هنا، عن طبقة صاعدة تشكّلت تدريجاً في منطقة قد تُحسب «راقية» في الضواحي، وفق التصنيفات اللبنانية السائدة، وتحديداً من سكان الضواحي الجنوبية و«الوافدين الجدد من أثرياء وميسوري المغتربات والخليج وما بينهما من طبقات متوسطة في مختلف شرائحها»، كما يصفها فواز طرابلسي في كتابه «الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان». هذا الخليط بين تلك الفئات المتباينة سرعان ما أنتج «ثنائية في السلوك الاجتماعي والاقتصادي» ومهّد لشيوع عادات وممارسات استهلاكية جديدة. سؤال أول يخطر في بال زائر الشارع: هل تطابق صورته الصورة «المتخيّلة» عن شارع يضم محالّ تجارية أسعارها مرتفعة نسبياً عن الأسعار في الضواحي المحاذية؟ سؤال ثانٍ: هل هناك «سلوك طبقة وسطى» في السان تيريز؟


نسخة معدّلة من «مونتي ألبرتو»

صاحب مقهى «لا روكّا»، في آخر الشارع لجهة الحدث، أو في أولهِ لجهة الضاحية، يفضّل أن يتحدث «بالشي يلي بفهم فيه». اختلفت نظرته إلى المنطقة تدريجياً. جاء بـ«توقعات مرتفعة» إلى المنطقة «التي قد تغري أي مستثمر يجهل تركيبتها الاجتماعية وما يريده أهلها فعلاً من المقاهي». تغيّرت توقعاته خلال سنتين ونصف سنة قضاها في إدارة المقهى. رواد «لا روكّا»، كما غيره من المقاهي الطافرة هنا، يأتون، في المناسبات حصراً، من المناطق المحيطة التي تفتقد الى المقاهي الكبيرة. وتلك المناطق لا تخرج بطبيعة الحال عن الحدود الجغرافية للضاحية، خلافاً لما كان يشهده مقهى «مونتي ألبرتو» في زحلة، الذي كان يديره صديقنا قبل أن يأتي إلى السان تيريز ويصطدم بثقافة استهلاكية جديدة. يتحدث مدير «لا روكّا» بسَأَمٍ عن سلوك الزبائن الذين يأتون بسيارات فخمة.

حتى حزيران الـ2006 بقي
«التمدد» محصوراً بجزء من
منطقة السان تيريز التي لم تكن
قد شهدت بعد توسعاً عقارياً

كانت توقعاته عالية، لكنه يواجه صعوبة في التواصل مع زبائنه، الذين يواجهون بدورهم صعوبة بالتعامل مع عمال المقهى... «أحياناً لا يتركون البقشيش». يقدم «لا روكا» الإفطارات الصباحية، «وكل ما يمكن أن تجديه في المقاهي الأخرى، لكن ثقافة الناس هنا تقضي بمقاطعة المقاهي خلال النهار». ثمة من يأتي في المساء «من أجل كوب مياه ونرجيلة»، وثمة من يمر أحياناً من أجل دخول الحمام فقط. وأغلب الزبائن يفضّلون الاستراحات الشعبية القريبة، التي تشبه مقهى «أبو عساف» الشهير، وهم للمفارقة من «أثرياء المنطقة»، على ما يعتقد صاحب المقهى. في أية حال، البقشيش والسيارات الفخمة لا علاقة لهما حصراً باختراع الطبقة الوسطى. وفي النهاية، للرجل الحق أن يستاء من تراجع تجارته، ولكن عليه أن ينتبه، أن زبائنه يأتون من مناطق «غير ميسورة»، كما يتوهم.
لا يوافق أبو حسن على توصيف «أثرياء المنطقة». يصنف سلوك أغلب سكان المنطقة بـ«الشعبي» و«البسيط» وفقاً لاحتكاكه الطويل معهم. لم يعتد الناس هنا، على ما يبدو، على نشوء «واحات رأسمالية». لديهم طبائعهم الاستهلاكية التي لم تتبدل بعد. أبو حسن هو أحد المتملكين في السان تيريز منذ ما قبل حرب تموز، وبعدها. وهذا، برأيه، يخوله لأن يعرف تاريخ المنطقة ويفهم حاضرها. أدار متجراً لبيع السجاد الايراني العجمي، لكن المحل فقد زبائنه «الذين كانوا يأتون من الضواحي الشرقية بعدما تحولت المنطقة، بفعل التغير الديموغرافي السريع وتبعات الحرب، إلى جزء من الضاحية. والسبب في ذلك، برأيه، أن الفئة الطارئة أرادت «استنساخ صورة المدينة»، بما تتيحه من أنماط استهلاكية تمارسها الطبقات الوسطى والوسطى العليا في العاصمة، ولكن بطريقة تتماهى مع رؤيتها. وفي النتيجة، تحولت السان تيريز في سنوات قليلة إلى تجربة مدينية غير موفقة، تؤوي صورياً طبقة وسطى، إلا أن سلوك سكانها لا يزال يرفض الصعود إلى «طبقة وسطى»، ويتعامل مع هذه الطبقة على أنها وهم. وأبو حسن، يعتقد أنه خسر زبائن «مهمين»، بينما خسرت المطقة نسيجها. لكن الخسارة ليست بسبب التمدد من الضواحي.


التغير الديموغرافي: بدايته ونهايته

عملياً، لا يمكن تحديد الفترة التي نمت خلالها المنطقة واكتسب أهلها سلوكاً اجتماعياً محدداً. لكن العودة إلى أولى مراحل التغير الديموغرافي في السان تيريز تستوجب البحث في الأحداث المفصلية التي شهدت طفرة عمرانية، والتي واكبها ترسّخ «عقيدة الضاحية» بمفهومها الاجتماعي والسياسي، المعلَنة منذ حرب تموز تقريباً. وهي الفترة «التي شهد فيها محيط سقي الحدث توسعاً عمرانياً أكمل ما كانت فورة التسعينيات العقارية قد بدأته في منطقتي الجاموس وصفير وصولاً إلى محيط مشفى السان تيريز»، وفق ما يشرح عضو بلدية الحدث جورج حداد لـ«الأخبار».
يرفض حداد أن يعيد أسباب التغير الديموغرافي والاجتماعي في الحدث ومحيطها إلى نزوح «شيعة الجنوب نحو ضاحية بيروت الجنوبية»، بل إلى «الإحباط المسيحي الذي تولد بعد هزيمة المسيحيين خلال الفترة التي تلت اتفاق الطائف»، وتخليهم منذ عام 1992 عن مساحات واسعة من الأراضي داخل حدود الـ«green zone» الفاصلة بين الحدث ومحيطها لجهة الغرب، والتي كانت خالية تماماً بفعل الأعمال العسكرية خلال الحرب الأهلية. وهي عملياً المنطقة التي تشمل اليوم غاليري سمعان، حي الأميركان، محيط الفحص الفني، الكفاءات وجسر كفرشيما. هكذا، «تخلى المسيحيون عن أرض المعركة، في الفترة التي تزامنت مع نزوح الشيعة الذين زادت في حينه إمكاناتهم المادية»، بحسب حداد، فضلاً عن عودة المغتربين منهم. ومعظم هؤلاء، العائدين من أفريقيا وبلاد الخليج تحديداً، استثمروا أموالهم في شراء الأراضي التي تشكل امتداداً جغرافياً للضاحية الجنوبية. وفيما كانت «سوليدير» تستحدث في بيروت مدينة مواكبة لـ «حداثة نيوليبرالية»، أراد الراحل رفيق الحريري ترسيخها في مظاهر البناء والتنظيم داخل العاصمة، كان المستثمرون الشيعة يستحدثون في السان تيريز، وفي العقارات المتصلة جغرافياً مع حدود الضاحية سابقاً، صورة عمرانية جديدة. ولكن، لحداد، مقاربة مختلفة، تنطلق من الحدث، قبل أن تنطلق من السان تيريز نفسها.
حتى حزيران الـ2006، بقي «التمدد» محصوراً بجزء من منطقة السان تيريز التي لم تكن قد شهدت بعد توسعاً عقارياً، كما أن معالم التمدد هذا لم تكن واضحة خصوصاً أن المنطقة «كانت قبل الحرب تؤوي نسباً متقاربة من شيعة وسُنة ومسيحيين»، على ما يروي أهلها. أتت بعد ذلك حرب تموز 2006. في الأيام الأولى، تلك التي استهدفت فيها إسرائيل ما كان يسمى «المربع الأمني» ومحيطه، «لم يغادر معظم أهالي السان تيريز منازلهم، على رغم الهلع الذي أحدثته أصوات القذائف والصواريخ، التي كانت تسقط في أحياء قريبة»، على ما تقول رلى، إحدى ساكنات المنطقة القدامى نسبياً. كان ذلك قبل أن يستقيظ أهالي السان تيريز في اليوم الـ15 من الحرب على صواريخ استهدفت مجموعة مبانٍ، كان أغلبها قيد الإنشاء، في مشروع سكني يقع في الجهة المقابلة لـ«مدرسة بيروت الأهلية». بعد أفول الحرب وعودة الهاربين من هولها إلى منازلهم، «باع أغلب المتملكين حديثاً في المنطقة شققهم الجديدة إلى من تضررت أملاكهم في بئر العبد وحارة حريك والرويس، الذين تهافتوا لشراء العقارات بالتعويضات التي دفعت لهم».

يؤكد أحد السماسرة
في المنطقة أن الشقق
بيعت بعد حرب تموز بنصف سعرها الحالي وربما أقل


يؤكد أحد السماسرة في المنطقة أن الشقق بيعت في حينه بنصف سعرها الحالي وربما أقل. «فيكي تقولي أتخن شقة انباعت بـ150 ألف دولار»، قبل أن تنشط المبيعات العقارية في محيط المنطقة من قبل المحركين الأساسيين لهذه السوق، وهم في أغلبهم من «الوافدين من أثرياء الطائفة والمغتربين الميسورين»، فضلاً عن أصحاب المهن الحرة من مهندسين وأطباء وصيادلة، الصاعدين من طبقات وسطى دنيا، رأت في تملكها أبنية على طراز جديد في منطقة راقية أولى خطواتها باتجاه رقيّها الاجتماعي. لكن هذا السلوك لا ينطبق بالضرورة على كل سكان المنطقة، خصوصاً أن انتماءهم الطبقي يُحَدد تبعاً للحي الذي يسكنونه ولأسعار الشقق المتباينة وفقاً لتصنيفات معينة، يحددها المستثمرون أولاً، والقدرة الشرائية لدى الأفراد ثانياً، بحسب حداد. فسعر شقة «عادية» في حي الأميركان الشهير، والذي يصفه البعض بـ«رابية الضاحية» وفق بلدية الحدث، قد يعادل أضعاف سعر شقة في السان تيريز. وبطبيعة الحال، فإن الممارسات الاستهلاكية للمتملكين في حي الأميركان (حيث يراوح سعر الشقق بين نصف مليون ومليون ونصف مليون دولار) قد تكون مختلفة تماماً. ولكن هذا يستدعي بحثاً آخر وزيارة أخرى.




مجمّع الإمام المجتبى الثقافي

عام 2013، شيّد حزب الله في محيط السان تيريز «مجمّع الإمام المجتبى الثقافي». ومنذ ذلك الحين، نقل الحزب تدريجياً الكثير من نشاطاته الاحتفالية والتأبينية من «مجمع سيد الشهداء» في الرويس إلى «المجتبى». خلال الأعوام الماضية، أقيمت في المجمع، الذي يتوسط الأحياء الداخلية في السان تيريز وحي الأميركان، سلسلة دروس ثقافية ـــ دينية. كما شهد تقبل التعازي باستشهاد عدد من قادة حزب الله، بينهم سمير القنطار ومصطفى بدر الدين. المجمع افتُتح في المنطقة التي تشهد طفرة عمرانية وامتداداً لأبناء الطائفة الشيعية، ولكنه بطبيعته يجعلهم مشتركين في الثقافة مع جيرانهم في الضواحي القريبة.






رمزية العرض البصري

يمكن القول إن امتداد رايات «يا مهدي» إلى محيط مستشفى السان تيريز يعدّ مظهراً من مظاهر الممارسات السائدة في الضواحي، بوصفها أداة رمزية لوسم النفوذ، في منطقة تشكل امتداداً جغرافياً لبيئة اجتماعية ومذهبية واحدة، رغم الاختلاف الطبقي.
لكن، ينبغي التنبه إلى أن سلوك أهل المنطقة الاجتماعي لا يمكن تحديده فقط بالارتكاز إلى رمزية العرض البصري في شوارعها، ولا إلى الأثر السيميائي للملصقات، العقائدية بغالبيتها، بل بالنظر إلى وتيرة وحجم استهلاك السكان والزائرين الدوريين في الحيز المكاني العام.







أثر القرض المصرفي

في كتابه «لبنان في مهب الريح: من ساحة قتال إلى ملعب (2012)» يعيد سمير خلف أسباب «الفورة غير المسبوقة في نزعة الاستهلاك الشعبي» في سماتها المؤسلبة والفاقعة والماتعة، بحسب تعبيره، إلى «القلق والاضطرابات» السلوكية التي سببتها الحرب اللبنانية، خصوصاً للطبقات الوسطى الصاعدة. وفي إطار تفسير «الجموح الاستهلاكي المحموم» الذي طغى على الطبقات الوسطى خلال العقد الأخير، يحيلنا فواز طرابلسي في إصداره الأخير (2016) إلى ظاهرة «الصراع الطبقي» التي أصابتها. وهي الظاهرة التي تغفلها السجالات السوسيولوجية الراهنة، التي تحاول أن تجد مبررات لثنائية السلوك الاجتماعي والاقتصادي للطبقات الوسطى الدنيا الناشئة في حيز مكاني ضيق. السان تيريز ومحيطها يمكن أن يكون هذا الحيّز في إحدى حالاته. صحيح أن الحرب أسهمت في تنمية هذه الظاهرة، لكن طرابلسي لا يغفل دور القطاع المصرفي في ترسيخها عن طريق «توفير تسهيلات إضافية لتسليفاته وتنويع قروضه، وهذا ما ولد أنماط حياة تتعدى بكثير مداخيل الطبقات الوسطى»، وحتى الشعبية، التي هي في مسعى دائم إلى «التشبه بأنماط الإنفاق والتبذير الاستهلاكية لدى الطبقات العليا وسمعة الارتقاء الاجتماعي، المظهري أو الافتراضي».