«لا مفرّ من البدء بإصلاحات مالية واسعة للحفاظ على النموذج الاقتصادي»، «حجم الإصلاحات المطلوبة قابلة للتطبيق، لكنها تتطلب جهوداً قوية، وهي وحدها لا تضمن الاستقرار». «برنامج الإصلاح المالي والاقتصادي لا يخلو من المخاطر ولم تتمكن من تحقيقه سوى بضع دول»... هذا بعض مما ورد على لسان خبراء صندوق النقد الدولي الذين زاروا لبنان، أخيراً، تنفيذاً لما يُعرف بـ«مشاورات المادة الرابعة».
كلام الخبراء يشير إلى دقّة المرحلة التي يشهدها لبنان وخطورتها. فعلى الرغم من كل الهندسات المالية التي نفذها مصرف لبنان، ورغم كل السياسات النقدية المتبعة، إلا أن النظام بخطر. بلهجتهم التقنية والنقدية، تحدّث خبراء الصندوق عن كلفة تثبيت سعر صرف الليرة والتشوّهات السوقية التي نتجت منها، وعن هندسات مصرف لبنان المالية التي نُفذت بدلاً من رفع أسعار الفائدة فأدّت إلى زيادة المخاطر المصرفية قبل أن يعود مصرف لبنان، مضطراً، إلى رفع الفائدة بما بين 2% و3%، واحتمال رفع الفائدة أكثر بسبب ارتفاع أسعار الفائدة العالمية، وتراجع نموّ الودائع إلى 3.8% في 2017 وبروز مؤشرات على تقلبات في ثقة المودعين، ما يخلق المخاوف من ضعف التدفقات المالية التي تغذي احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية التي يستعملها دفاعاً عن تثبيت سعر صرف الليرة ولخلق ما يعرف بـ «الثقة» التي تغذي بدورها تدفقات إضافية... كل هذه الانتقادات تصبّ في محور واحد: فرصة الإصلاح، في ظل الدعم الدولي المتمثل بانعقاد مؤتمر باريس 4 (سيدر ــ1) متوافرة وقائمة وصعبة التنفيذ ومكلفة، لكنها لن تدوم.

«القلق» VS الفرصة

بيان الخبراء الذي نُشر على الموقع الإلكتروني لصندوق النقد بموافقة السلطات اللبنانية، انطوى على الكثير من «القلق» والتوجيه لما يجب فعله ضمن الفرصة المتاحة. ففي رأي خبراء الصندوق، إن لبنان خرج من الأزمة السياسية في تشرين الثاني الماضي (احتجاز رئيس الحكومة في السعودية) «أكثر هشاشة» مما كان عليه، فيما برزت مؤشرات على تسارع نموّ الدين العام بعدما قفز فوق «150% من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية 2017».
هذه التحديات قد تفرض «زيادة أسعار الفائدة»، وهو ما يمكن أن ينعكس سلباً على مسار ديناميكية الدين وتسارعه، ما يحتّم أن تكون هناك «إجراءات سريعة للحفاظ على ثقة النظام والاستفادة من الدعم الدولي» واتخاذ «خطوات طارئة» لتدعيم «الاستقرار الاقتصادي». لكن المشكلة أن الدين لن يقف عند مستوى 150% من الناتج، بل يمكن أن يصل «إلى 180% من الناتج في 2023، في ظل التباطؤ الاقتصادي وارتفاع أسعار الفائدة العالمية». وهذا الأمر ينعكس مباشرة في تصنيف لبنان السيادي، حيث تبيّن أن «الرؤية المستقبلية للبنان ليست واضحة».
كلام خبراء صندوق النقد لا يمكن تأويله: ابتداءً من عام 2018 هناك فرصة للإصلاح تمتدّ على خمس سنوات، وكلما اقتربنا من عام 2023 تضاءلت هذه الفرصة.

تشوّهات السياسة النقدية

وبدلاً من تخفيف عبء المشكلة على الأطراف المعنية، قام مصرف لبنان خلال السنتين الماضيتين بتعميقها. فبحسب الخبراء أدّت سياسات مصرف لبنان إلى «تعريض المصارف لمخاطر مختلفة بسبب انكشافها على الدين السيادي والفرق بين آجال توظيفاتها وآجال ودائعها». تعميق المشكلة جاء من خلال ما يسمى هندسات مالية.

الهندسات المالية دفعت المصارف
إلى الانخراط أكثر
في الانكشاف على الدين السيادي


فقد لاحظ الخبراء أن مصرف لبنان «استمر في التوسع بالعمليات المالية غير التقليدية»، إلا أنه بالنتيجة «تسارع انكشاف المصارف على مصرف لبنان منذ صيف 2016... وكانت عملية مكلفة على ميزانية مصرف لبنان ووضعيته المالية بالعملات الأجنبية التي كانت تراجعية». ثم اندفع مصرف لبنان إلى تنفيذ «عمليات إضافية في كانون الأول 2017 لتحفيز المصارف لتأمين ودائع طويلة الأمد بالليرة من خلال زيادة اسعار الفوائد على أدوات مالية يصدرها مصرف لبنان وتحملها المصارف بما بين 2% و3%».
من هناك جاء الاستنتاج بأن سياسات مصرف لبنان التي تتضمن تثبيت سعر صرف الليرة، تمويل الحكومة من خلال أدوات مالية طويلة الأجل للمصارف، الحفاظ على استقرار أسعار الفائدة من خلال الاكتتاب بسندات الخزينة بالعملتين المحلية والأجنبية، دعم التسليف، معالجة المصارف الضعيفة، دعم الودائع «ساعدت على الاستقرار لكنها خلقت تشوهات في السوق».
في الواقع، إن كلام الخبراء واضح لجهة الكلفة التي يدفعها مصرف لبنان من المال العام لتأمين استمرارية «النموذج»، إلا أنه ينطوي على تلميح واضح ايضاً إلى أنه لا يمكن التمادي في هذه اللعبة أكثر، إذ يشير إلى أن «الصدمات المختلفة قد تكشف عن نقاط الضعف في القطاع المصرفي. فالزيادة الأخيرة في رؤوس أموال المصارف مرحب بها، وفيما متطلبات مصرف لبنان لكفاية رأس المال والملاءة المالية التي تتجاوز مستويات بازل 3، لا تزال تعدّ متواضعة نظراً إلى انكشاف المصارف الكبير على الدين السيادي وعلى أدوات دين صادرة عن مصرف لبنان، علماً بأن أوزان المخاطر ليست وفق المعايير الدولية».

ازدياد التعثّر

هذا الكلام عن ابتعاد مصرف لبنان والمصارف عن المعايير الدولية مفاجئ، إذ إن مبررات تنفيذ الهندسات المالية، قامت على ادعاء بأن الهدف منها جمع دولارات إضافية لاستعمالها دفاعاً عن تثبيت سعر صرف الليرة، وتحقيق أرباح إضافية للمصارف توفّر لها القدرة على رصد مؤونات إجمالية على محفظة التسليفات وفق المعايير الدولية ولتلبية حاجات الملاءة المالية. لكن، في المقابل، تبيّن أن الهندسات دفعت المصارف إلى الانخراط أكثر في المشكلة، أي توظيف الأموال في الدين السيادي بشقيه: دين الدولة وديون مصرف لبنان. وتبيّن لخبراء الصندوق أن «هناك مؤشرات على أن الديون المشكوك في تحصيلها سترتفع». ويستند هذا الاستنتاج إلى أن هناك «تباطؤاً اقتصادياً، وخصوصاً في القطاع العقاري يأتي بالتزامن مع ارتفاع أسعار الفائدة، ما سيؤثر في نوعية التسليفات».

أجندة للإصلاحات

في رأي الخبراء يجب التركيز على ثلاثة محاور إصلاحية:
ــ العمل على خطّة تحقق استقرار الدين العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي ثم وضعه على مسار انحداري، وبالتالي إن أي زيادة في الاستثمارات العامة يجب أن تترافق مع خطّة إصلاحية يسبقها مباشرة تعزيز أطر إدارة الاستثمارات العامة.
ــ احتواء المخاطر المالية بما فيها تحفيز المصارف واتخاذ إجراءات لتحسين نوعية التسليفات.
ــ إصلاح قطاع الكهرباء وتحسين وتفعيل أطر مكافحة الفساد.
ويقترح الخبراء إقرار ثلاثة إجراءات على الصعيد الضريبي لزيادة الإيرادات:
ــ زيادة ضريبة القيمة المضافة.
ــ إعادة الضريبة على المشتقات النفطية إلى مستويات ما قبل 2012.
ــ تخفيف الدعم تدريجاً عن الكهرباء.

إصلاح غير مضمون

يعتقد الخبراء أن «حجم الإصلاحات المطلوبة لا تزال قابلة للتطبيق، لكنها تتطلب جهوداً قوية، وهي وحدها لا تضمن الاستقرار». ويضيف الخبراء أنه «لا مفر من البدء بإصلاحات مالية واسعة للحفاظ على النموذج الاقتصادي المرتبط بثبيت أسعار صرف الليرة المدعوم بتدفقات مالية خارجية». ومن متطلبات هذا الأمر «زيادة الإيرادات وخفض المصاريف الجارية، اللذان يشكّلان نحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أمر مطلوب لوضع الدين العام على مسار تنازلي». وهذه الإصلاحات «ستكون مكلفة»، فضلاً عن أن «برنامج الإصلاح المالي والاقتصادي لا يخلو من المخاطر». واللافت أن ما هو مطلوب من لبنان «لم تتمكن من تحقيقه سوى بضع دول»!




مخاطر على المصارف

بحسب خبراء صندوق النقد فإن مصارف لبنان تعاني من مشكلتين:
ــ تدنّي مستويات أصولها بالعملات الأجنبية «ويرجع ذلك جزئياً إلى قيام المصارف بتحويل ودائعها بالعملات الأجنبية من الخارج إلى مصرف لبنان بسبب العمليات المالية (الهندسات المالية)»، أي إن مصرف لبنان قدّم إغراءات للمصارف لسحب الأصول الأجنبية وتوظيفها لديه.
ــ هناك مخاطر على أرباح المصارف وعلى رؤوس أموالها ناجمة عن ارتفاع أسعار الفائدة في المنطقة.





نصائح صندوق النقد لـ«المركزي»

ينصح خبراء صندوق النقد الدولي أن يعتمد مصرف لبنان سياسات تقليدية لمعدلات الفائدة بدلاً من الهندسات المالية. فإذا خفّت تدفقات الودائع، سيترتب على مصرف لبنان أن يحمل سيولة أقلّ وأن يرفع أسعار الفائدة لضمان تدفقات بالعملات الأجنبية بدلاً من الاعتماد على تكرار الهندسات المالية. ويجب على مصرف لبنان التخفيف من حمل سندات الخزينة.