المشروع التقسيمي الذي تعمل الولايات المتحدة على تحقيقه في شرق سوريا، والموقع الاستراتيجي والجيواقتصادي الشديد الأهمية، يكشف أن بين الأهداف الرئيسية للتدخل الأميركي في الصراع السوري، القضاء على سيادة الدولة السورية في أرضها ومواردها، بالإضافة إلى الأبعاد الإقليمية والدولية الأخرى.
من الممكن القول إنّ منطق هذا التدخل يشكّل استمرارية لسياسة أميركية ثابتة على مدى عقود قامت على محاربة الدول العربية صاحبة التوجهات السيادية والقومية العربية. سعت أميركا إلى إضعافها وإكراهها على تغيير سياساتها (Policy Change) كما جرى في مصر بعد رحيل جمال عبد الناصر، أو إسقاط أنظمتها بالتدخل العسكري المباشر (Regime change)، كما عرفه العراق عام ٢٠٠٣، أو في ليبيا عام ٢٠١١. لكن نتائج هذه التدخلات لم تكن متساوية من منظور الأهداف التي حددتها الولايات المتحدة، نتيجة التغييرات الكبرى التي طرأت على قدراتها والتحولات الموازية في موازين القوى الدولية والإقليمية. فإذا كانت سياساتها تجاه مصر قد تكللت بالنجاح وأتاحت لها استتباع أكبر دولة عربية منذ سبعينيات القرن الماضي، فإن تدخلاتها الأخرى قد باءت بالفشل، إذ أخفق مشروعها بإقامة نظام حليف في العراق وإطلاق دينامية على مستوى الإقليم تؤدي إلى سقوط الأنظمة المعادية لها.
ينطبق الأمر نفسه على ليبيا حيث قاد تدخّلها العسكري إلى تدمير الدولة محيلاً إياها إلى ساحة نزاع محموم بين مجموعات مسلحة، متعددة التحالفات، ومتقلبة الولاء. اعترف باراك أوباما بنفسه في مقابلته الشهيرة مع مجلة «أتلانتيك» بهذا الأمر، متهماً كلّاً من الرئيس الفرنسي آنذاك نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء البريطاني جيمس كاميرون، بتوريطه في هذه المغامرة غير المحسوبة. من الممكن القول من الآن، إن الحظ لن يحالف الولايات المتحدة في سوريا. فهي تدخلت عسكرياً في ساحة تحولت إلى مركز احتشاد لمجموعة من اللاعبين المحلين والإقليميين والدوليين، يعرض أغلبهم مشاريعها ومخططاتها، ويمتلك القدرة والتصميم على الدفاع عن مصالحه الحيوية.
إن احتشاد هذه القوى المتناثرة، والمتنازعة في سياق احتدام نزاعات أخرى في آن واحد، كما يجري في سوريا، أمر غير مسبوق في السياسة الدولية منذ الحرب العالمية الثانية. حلفاء الدولة السورية، أي قوى محور المقاومة وروسيا تدخّلوا بطلب رسمي منها. تركيا من جهتها تدخّلت عسكرياً بذريعة محاربة «داعش»، قبل أن تلحق بها ذريعة إبعاد المقاتلين الأكراد عن حدودها لتوسيع عملياتها السورية، باعتبارهم واجهة سورية لحزب العمال الكردستاني.
أما الولايات المتحدة، فقد كان لتدخلها منذ ولاية أوباما، هدف معلن ومباشر في التصدي لـ«داعش»، فيما أضمرت التموضع في مواجهة توسع نفوذ إيران. ومع إدارة ترامب وهزيمة «داعش»، خرج إلى العلن هدف مواجهة إيران، وظهر إلى العيان رغم إضماره نتيجة الأداء الميداني، هدف استنزاف روسيا في سوريا. تفصيل آخر شديد الأهمية، لكنه لم يثر تعليقات المراقبين يرتبط بالتغييرات التي طرأت على الفريق الأميركي المكلف إدارة الملف السوري. هذا الفريق تمحور أثناء إدارة أوباما حول الثنائي بريت ماكغورك ومايكل راتني. منذ تعيينه ممثلاً رئاسياً لدى التحالف الدولي ضد داعش، اعتبر ماكغورك أن الأولوية القصوى هي للحرب على التنظيم. والرجل خبير قانوني، قرر أن يغيّر مسار حياته وينضم إلى ما سمي «الحرب على الإرهاب» بعد عمليات الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١، عبر العمل مع الحكومة الأميركية مستشاراً قانونياً للتحالف الدولي بداية، عند احتلال العراق، ودبلوماسيا لاحقاً. وقد عرف عنه أثناء عمله مع «قوات سوريا الديمقراطية»، حرصه على عدم التدخل في إدارة شؤون المناطق الخاضعة لسيطرتها، بما فيها تلك المتعلقة بالموارد النفطية، ولم يعارض التواصل مع الدولة السورية في مواضيع إدارة شؤون السكان. مايكل راتني، المبعوث الأميركي الخاص لسوريا، كان منسجماً مع توجهات ماكغورك.
مع وصول إدارة ترامب بات يشار إلى هذا الثنائي باعتباره من فلول إدارة أوباما. ومع التغيير المعلن في السياسة الأميركية تغيّرت المقاربة الأميركية بوضوح. مهمة راتني انتهت واستُبدل به جون هانا أحد صقور المحافظين الجدد الذي عمل مستشاراً لديك تشيني، نائب الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، المعروف بمواقفه المتطرفة حيال سوريا وإيران، واختياره مؤشر بذاته على الوجهة الأميركية الجديدة في سوريا.
تقف الولايات المتحدة في مواجهة مجموعة أطراف تتألف من محور المقاومة وروسيا وتركيا تملك أجندات مختلفة، وتتشاطر رفضها مشروع التقسيم ولديها قدرات كبيرة لاستنزافه وإفشاله. وإذا كانت واشنطن لم تتورع عن اللجوء إلى تكتيكات الحرب الهجينة والعمليات الخاصة، وصولاً إلى القصف الجوي لرسم خطوط حمراء، هي بمثابة حدود كيانها التقسيمي، فإن هذه التكتيكات ليست حكراً عليها. ومع كل خطوة تصعيدية تقدم عليها، تغامر بتسعير صراع سيحوّل سوريا، إلى ثقب أسود يبتلع طموحاتها ومخططاتها.