يقال إن التاريخ يكتبه المنتصر، لكن في هذا العصر الذي صار فيه كثير من المراجع والمؤلفات والوثائق... ذات العلاقة بموضوع ما متوافرة على نحو شبه مجاني لكل من يبحث عنها، فإن الحقائق، المفجعة حقاً، الخفية والمخفية والمسكوت عنها، من الممكن أن تجد طريقها إلى النشر والانتشار.
من حقائق الحرب العالمية الثانية، التي كانت إلى حد كبير حرب اللصوص الإمبرياليين مستعمِري الشعوب الضعيفة، أنها انتهت بمحاكمات نرمبرغ وطوكيو، التي أطلق «الحلفاء» عليها تسمية «آخر معارك العدالة» حينما خضع بعض قادة ألمانيا واليابان للمحاكمة وحكم بالموت على بعضهم، وبالسجن على آخرين، بينما حظي كثر بعناية أميركية خاصة، إذ أعيد الاعتبار إليهم وتسنّموا مواقع قيادية مهمة في الدولة الألمانية الغربية التي أعلن قيامها في السابع من أيلول 1949.
مرت مدة زمنية طويلة قبل أن يكتشف الغرب الاستعماري مناسبة جديدة لتقديم أفراد معادين له إلى المحاكمة بتهم جرائم حرب، فقد أعلنت محكمة الجنايات الدولية أن كلاً من الجنرال رادكو ملادتش وسلفوبودان مِلسُفتش جزاران؛ الأول «جزار البوسنة» والثاني «جزار البلقان». المسألة هنا ليست البحث في صحة التهم، إذ تتوافر مؤلفات مهمة عن الموضوع، وهي ليست موضوعنا على أي حال، وإنما الحديث في مرشحين أكثر جدارة بالحصول على هذا النعت.
لنعد الآن إلى ليلة الرابع عشر من شباط 1945؛ لنتذكر أن الحرب في أوروبا انتهت عملياً في منتصف نيسان 1945، ورسمياً في التاسع من أيار من العام نفسه. في تلك الليلة، انطلقت مئات من قاذفات القنابل البريطانية (805 قاذفات) إلى فضاء مدينة درسدن الألمانية لتبدأ دكها بقنابل حارقة، عدّت في تلك الأيام من أسلحة الدمار الشامل. النتيجة أنه في تلك الليلة دمرت قاذفات القنابل البريطانية نحو 30 ألف مبنى، وقتلت أكثر من مئة ألف روح بشرية من المدنيين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، وفي تقديرات أخرى، وصل عدد القتلى إلى نحو نصف مليون، والرقمان تجاوزا عدد ضحايا هيروشيما.
درسدن، تلك المدينة الجميلة لم تكن ذات أي أهمية استراتيجية أو تكتيكية، وسقوطها من عدمه لم ليكن ليؤثر في مسار الحرب في أوروبا التي كانت على وشك الانتهاء. على العكس، كانت درسدن مدينة لقاء الحضارات الأوروبية، مدينة المتاحف والمباني الجميلة والإبداع الفني. والغرب عدها متحفاً مفتوحاً، وأهم مركز لمباني عشر البارُك في العالم. ودرسدن لم تكن تضم أي معمل أو مركز حربي استراتيجي أو حتى تكتيكي.
رئيس وزراء بريطانيا، ونستن تشرشل، هو من أمر بتدمير المدينة على رؤوس أهلها وسكانها، وكان يعلم أن الضحايا من المدنيين، وخصوصاً أنها كانت مكتظة باللاجئين المطرودين من مدنهم وقراهم في شرق ألمانيا، وفق وعده لبولونيا بتسليمهم أرضاً مطهرة عرقياً من الألمان.
في نهار اليوم التالي، نفذ سلاح جو الولايات المتحدة غارات إضافية على المدينة ضاعفت أعداد الضحايا وزادت الخراب. من الألمان الذين عاصروا ذلك اليوم الرهيب، أخبروني أنه كان بإمكانهم قراءة الكتب على ضوء وهج القنابل الحارقة، مع أن بيتهم كان يبعد نحو خمسين كيلومتراً عن المدينة.
لا يهمنا هنا من خطط ونفذ هذه الجريمة التي هي إبادة جماعية موصوفة، لأن قرار التدمير لم يكن عسكرياً وإنما سياسياً. لقد كانت مجزرة بكل ما في النعت من معان. الجزار الأول هو تشرشل. فهو الذي أصدر الأمر بإحراق المدينة بمن فيها وما عليها، عالماً مسبقاً بأن الضحايا هم من المدنيين. وتشرشل صاحب تاريخ حافل بالجرائم بحق الإنسانية، من الأمر باستعمال الغازات السامة ضد المدنيين في العراق إلى جرائم المجاعة في أفريقيا، التي أجبرت حتى الرئيس باراك أوباما على تذكره وأمره بإزالة تمثال له من المكتب البيضاوي في البيت الأبيض (أعاد دونالد ترامب التمثال إلى مكانه).
الجزار الثاني هو الرئيس الأميركي فرنكلين دي. روزفلت الذي شارك في اتخاذ القرار، وهو من أرسل آلات القتل الأميركية لتقضي على ما تبقى في المدينة من حيوات. أما الجزار الثالث، فهو قائد قوات الحلفاء في أوروبا، الجنرال دوايت آيزنهاور، الذي انتخب لمنصب الرئاسة في البيت الأبيض.
ومع أن الجنرال الجزار لم يكن سياسياً وقت ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية الموصوفة، فإنه كان يدرك أن دك المدينة سيؤدي إلى خسائر هائلة بين المدنيين. وقد علمنا من قبل، وفي هذا المنبر تحديداً، أن ذلك الجنرال كان مسؤولاً مباشرأ عن موت نحو مليوني أسير حرب ألماني تضوراً وبسبب الأمراض والأوبئة في معسكرات الاعتقال، على ما يرد في المراجع والوثائق الأميركية وغيرها.
يضاف إلى قائمة الجزارين الجنرال آرثر ترفِس هريز قائد أساطيل القاذفات البريطانية الذي قبل تنفيذ مهمة تحويل المدينة «المتحف في الفضاء المفتوح» (open air museum) إلى «محرقة في الفضاء المفتوح» (open air crematorium) وفق وصف أحد المؤرخين الأميركيين. من يعد هؤلاء الجزارين أبطالاً قوميين لا يحق له الحديث عن جرائم الآخرين. قوائم جزاري الغرب الاستعماري طويلة، وسنعود إليها في مناسبة أخرى.