المستوى الأخلاقي هابط. الثقافي هابط. التربوي هابط. انعدام الثقة «طالع». الكذب «طالع». الشعور الدائم بأن الآخر يحوك المكائد «طالع» أيضاً. منسوب حوادث السرقة «طالع»... والبلد «ماشي». فما الذي يحدث؟ القصة بدأت من هنا. من سلسلة طلعات ونزلات تولد في كل حين ومكان، ومن دون ثبات. فما كان صاعداً، قد يصعد أكثر. وما كان هابطاً قد يهبط أكثر. الثابت الوحيد أنها كلها «لبنانية»، يقول رئيس جمعية «بلاد» للعلاج والدراسات النفسية والاجتماعية، د. أحمد عياش.
قبل بضعة أشهر، لاحظ عياش أن نسبة «الشتامين» وحوادث العنف و...و...، ترتفع، سواء أكان في الشارع أو في البيت أو حتى على التلفزيون. بدأت الأسئلة تتزاحم في رأسه: ما الذي يحدث؟ ما هو مصدر هذه التغيرات؟ من المسؤول عنها؟
أسئلة كثيرة طرحها عياش وأجاب عنها بالتخمين: «معقول الواقع السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي، الطائفي؟»، لكن، كل هذه التخمينات لم تصل إلى المشكلة الأساس. ثمة حلقة مفقودة، هي أساس كل شيء، ربما تكون، العائلة، الطائفة، الاقتصاد، السياسة. لكن، أين هي؟
بملاحظات «مدوبلة»، واستمارات، خرج عياش بخلاصة أكيدة: «الخطأ في التربية»، يقول. وبما أنه جرى تحديد الخطأ، بدأ الطبيب عمله لاكتشاف ما يحصل من «مشاكل في المنهج وطرق التعليم ومعرفة أوضاع التلامذة داخل المدارس»، فوزّع استمارات على أكثر من سبعين مدرسة، ما بين رسمية وخاصة، مؤلفة من تسعة استفسارات: الإفراط في الحركة وقلة الانتباه والعدوانية وتطوّر التلامذة من عامٍ وإلى آخر والانطوائية وظاهرة الإدمان (على الإنترنت، على الخلوي...) والتدخين. يضاف إلى كل ذلك طرح أسئلة على إدارات المدارس ولجان الأهل عن كيفية معالجة الدوافع لهذه الظواهر.
امتلأت الأوراق وبدأ التحليل. «يا للهول»، هي الكلمة الوحيدة التي يمكن أن يختصر بها عياش تعليقه على التحليلات التي مثّلت محاور مؤتمر «صعوبات التعلم ومشاكل التعليم»، الذي نظمته الجمعية السبت الماضي.
ما أظهرته تلك الأوراق أكثر من مجرد أزمة تربوية، فثمة أزمة «نفسية»، وفقدان رغبة «دوبل» من التلميذ والأستاذ أيضاً: فقدان الأول رغبته في التعلم بسبب عدم جدوى ما يفعله، وفقدان الآخر الرغبة في التعليم بسبب «هيك نوعية من التلامذة»، تضاف إليها همومه الاقتصادية والاجتماعية أيضاً.
كره مشترك يُنتج في كل حين: طالباً متمرداً، وآخر متسرّباً سيجد نفسه في لحظة محدّدة في شلة معينة أو عصابة أو ما يشبه الأحزاب. وهنا، سيلجأ إلى العنف حتماً، والعدوانية «ليرتاح في البؤر الطائفية والتدميرية».
مهلاً، أين إدارات المدارس ولجان الأهل من كل هذا؟ الجهة الأولى تكتفي بمعالجة الدوافع المؤدية إلى تلك الظواهر. أما الثانية، فتكتفي بما تفعله الأولى، لكن، هل تطرق أحد إلى العدوانية نفسها مثلاً؟ إلى الصحة النفسية للطلاب؟ هل يوجد في تلك المدارس جهاز نفسي صحي خاص يمكن أن يرافق الطالب في تغيراته؟ إن كان لا بد من الحديث تبعاً لنوع المدرسة، رسمية وخاصة، فالجواب لا يختلف إلا لماماً. فالمدرسة الخاصة لا تختلف عن المدرسة الرسمية إلّا في عدد المرشدين الصحيين والتربويين، وإن كانوا غير كافين في المكانين. أما ما عدا ذلك، فمهول، ففي «المدرستين»، ثمة مرشدون كانوا في الأصل أساتذة وجرى فرزهم للقيام بهذه المهمة. وليتصور الكثيرون ما الذي يعنيه هذا الفرز، إضافة إلى عدم الأهلية وضعف التأسيس. فلا يمكن لهؤلاء أن يعرفوا أن الأزمة الحاصلة أزمة نفسية. فببساطة مفرطة، هم أساتذة لا أطباء نفسيّون، وبالتالي فهم ليسوا قادرين على فهم هذه الظواهر. وهنا تبرز أزمة فقدان التواصل بين إدارات المدارس والأطباء النفسيين. والسؤال الذي يمكن أن يطرح هنا: لمَ هذا الجفاء بين غالبية المؤسسات التربوية والطب النفسي؟ ربما لأنه «ما عنا طلاب معقدين»، على حدّ قول أحد الأساتذة! وربما أيضاً هذا ما يفسر امتناع بعض الجهات عن حضور مؤتمر صعوبات التعلم.