حين التقيناه في بيروت في حزيران (يونيو) الماضي، كان أنطوني شديد (43 سنة) أكيداً أن «ربيع الشعوب» سينتصر على «شتاء الديكتاتوريات العربية». بلغة عربية ثقيلة، قال: «الحرية قريبة». أخبرنا عن «أجمل أيام حياته» التي عاشها في ميدان التحرير وعن عبد الحليم حافظ الذي عشق أغنياته. ولم يتردّد في التعبير عن استيائه من تجاهل ثورة البحرين. يومها، استعاد شريط حياته، مؤكداً مرات عدة أنه لا يعدّ نفسه غريباً عن العالم العربي، رغم ولادته ونشأته في الولايات المتحدة «أنا أميركي، لكنني أيضاً لبناني عربي» قال.
مرَّتين لامس أنطوني شديد الموت: الأولى عندما أطلق عليه قناص إسرائيلي النار في رام الله المحتلّة في عام 2002، وعندما اختطفته قوات معمّر القذافي في أجدابيا (ليبيا) في آذار (مارس) الماضي، مع ثلاثة من زملائه. في المرّتين، تمكّن مدير مكتب «نيويورك تايمز» في بيروت من الخروج سالماً من دائرة الخطر. لكن ما يصحّ في فلسطين وليبيا، لا يصحّ في سوريا. هناك فارق الصحافي المغامر الحياة فجر أول من أمس بعد إصابته بنوبة ربو قاسية أدّت إلى موته وهو يحاول مغادرة سوريا باتجاه تركيا سيراً على الأقدام. كانت هذه زيارة أنطوني الأخيرة لسوريا، على أن يستكمل بعدها كتابه عن الثورات في العالم العربي. في إدلب تحديداً، كان يجري تحقيقاً مع أعضاء في «الجيش السوري الحرّ». طبعاً لم يدخل سوريا، قبل أسبوع، بطريقة شرعية، بل عبر الحدود التركية. الحدود نفسها التي سيفارق الحياة قربها. وحتى لحظة كتابة هذه السطور، لم تكن عائلة شديد قد حدّدت موقع دفنه، أميركا حيث يسكن والداه، وإخوته، وابنته ليلى (من زواجه الأول)، أو لبنان حيث زوجته الحالية ندى بكري، وابنه مالك.
في اتصال مع «الأخبار»، يروي صلاح بكري والد ندى بكري، زوجة شديد، أنّ الصحافي الراحل «اتّفق أن يلاقي ندى في تركيا ليقضيا إجازة في إسطنبول». ذهبت ندى إلى أنطاكيا، لتقابل زوجها جثة هامدة. بادي شديد والد أنطوني، أكّد في حديثٍ مع وكالة «أسوشييتد برس» أن ابنه كان يجتاز الحدود «مشياً على الأقدام؛ لأن ركوب السيارة كان خطراً جداً، وكان يمشي خلف مجموعة من الأحصنة التي عادةً ما تحرّك الربو لديه»، وهو ما أكّده زميله تايلر هيكس الذي اعتقل معه في ليبيا. وقال هذا الأخير إنه كان يرافق شديد أثناء عبور الحدود بمساعدة مهرِّبين «أصيب بنوبة ربو ليلة وصوله إلى سوريا قبل أسبوع تلتها نوبات أقسى ليلة الخميس (أول من أمس)... وبعد دقائق على آخر نوباته، اكتشفت أنه لم يعد يتنفّس». لكن هذه الرواية لا تنطبق مع ما يخبرنا به صلاح بكري: «منذ زواج أنطوني بندى، أي قبل أربع سنوات، لم نلاحظ أي عوارض لإصابته بالربو». تضارب في الروايات لن يحسمه إلا تشريح الجثة وتقرير الطبيب الشرعي.
أنطوني شديد مات، هذه هي الحقيقة الوحيدة. مات قبل شهر من صدور كتابه الجديد «بيت من حجر: ذاكرة منزل، وعائلة، وشرق أوسط ضائع». هذا البيت الذي شيدّه أجداده في مرجعيون (جنوب لبنان)، مطلع القرن الماضي، وأعاد هو ترميمه بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006. مرجعيون، هذه البلدة الجنوبية أعادت ربط شديد بأصوله اللبنانية، رغم ولادته في الولايات المتحدة، لأبويَن لبنانيَّين وُلدا هما أيضاً في أوكلاهوما. لكن بلاد «العمّ سام» لم تبعد العائلة عن هموم الوطن العربي. هكذا انتفض أنطوني على الصورة النمطية التي اعتمدتها وسائل الإعلام الغربية في تصوير المنطقة كـ«بؤرة للإرهاب». أراد أن يصبح صحافياً ليغيّر هذه الذهنية. وقد نجح إلى حدٍّ ما: من عمله في وكالة «أسوشييتد برس» (1990) إلى صحيفة «بوسطن غلوب» (1999) ثم «واشنطن بوست» (2003) وأخيراً «نيويورك تايمز» (2010). ولعلّ شهرته الكبرى حصدها بعد تغطيته للاجتياح الأميركي للعراق. هناك بدت تغطيته مختلفة. أخبرنا قصص المواطنين العاديين، حكايات موتهم اليومية، وفقرهم وتهجيرهم، ما جعله يفوز بـ«جائزة بوليتزر» عن فئة «الصحافة الدولية» مرّتين: الأولى عام 2004، والثانية 2010. كذلك وصل إلى نهائيات الجائزة عام 2006 لتغطيته عدوان تموز على لبنان. وفي ظل انهماكه بالعمل اليومي الذي لم يملّ منه يوماً، أصدر كتابين: الأوّل هو «ميراث النبي» («وستفيو برس» ـــــ 2002)، والثاني Night Draws Near («هنري هولت أند كومباني» ـــــ 2005).
مات أنطوني شديد بعدما شهد على انتفاضة الشعوب العربية في تونس ومصر وليبيا وسوريا. ولم يتردّد في إخفاء خيبته مما وصلت إليه الحال في بعض الدول الثائرة مثل ليبيا، وهو ما كتبه في مقالته الأخيرة في «نيويورك تايمز» التي عبّر فيها عن قلقه من بعض المظاهر الميليشياوية الموجودة في الشوارع.
هكذا إذاً سرق الربو أحد أفضل المراسلين في العالم. مات أنطوني شديد، فمن بعد اليوم سيخبرنا يوميات الثوارت والانتفاضات... والخيبات؟



على النت

تأبين افتراضي




حالما خرج خبر وفاة أنطوني شديد إلى العلن، امتلأت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بعبارات التعزية التي لم تخل من الصدمة. وانتشرت صوره القديمة والجديدة مع بعض الأشرطة التي سجّلت مقابلات سبق أن أجراها مع عدد من القنوات التلفزيونية الأميركية والعالمية. رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي كتب على تويتر «تعازيّ الحارة لعائلة وأصدقاء وزملاء أنطوني شديد. لقد كنت أعرفه شخصياً ومعجباً به». أما الصحافيون الأميركيون فلم يترددوا في التعبير عن حزنهم للفاجعة. مدير تحرير «فورين بوليسي» بلايك هاونشيل كتب: «لم يكن هناك أحد مثله». أما آيمي ساليفان المحررة السابقة في «تايم» فكتبت: «هناك مراسلون عظماء، وكتّاب عظماء، وهناك قلة قليلة تمتّعت بالصفتين معاً. أنطوني شديد كان واحداً من هؤلاء». كذلك عبّرت مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن سوزان رايس عن حزنها لرحيل «واحد من أشجع الصحافيين وأفضلهم». ولعلّ التعبير الأكثر توصيفاً للفراغ الذي سيخلّف هذا الصحافي المغامر، كان ما كتبه بيتر غودمان من «هافنغتون بوست»: «نادراً ما يموت صحافيّون، ونشعر بأن العالم أصبح مختلفاً، لكن في غياب شديد سنعرف أقلّ». أما الإعلامية الشهيرة في قناتَي الـ ABC وCNN كريستيان أمانبور، فكتبت على حسابها الخاص: «خسرنا واحداً من أفضل الصحافيين. أنطوني شديد كان عملاقاً وزميلاً رائعاً». فيما استعاد زميله في «نيويورك تايمز» آدم إلّيك بعض الذكريات قائلاً: «عندما كنت أغطي الأحداث في سترو (البحرين) كان الجميع يستوقفني ليسألني: هل تعرف أنطوني شديد؟». وعلى موقع فايسبوك، لم تختلف الصورة كثيراً. امتلأت الصفحات بصور شديد، وخصوصاً تلك التي انتشرت عقب إطلاق سراحه في ليبيا. وتناقل الناشطون روابط لآخر مقالاته وأبرزها، وخصوصاً تلك التي أوصلته إلى «جائزة بوليتزر». فيما استبدل البعض صورهم الشخصية بأخرى للصحافي الشهير. وانتشرت المقالة التي نعت فيها «نيويورك تايمز» مراسلها، وأرفقها الناشطون على فايسبوك بعبارات الأسف والحزن لرحيله.