strong>الزراعة كالقمار بين الوسطاء التجاريين والإهمال الحكوميالقطاع الزراعي يتعرض للإهمال المزمن من الحكومات المتعاقبة... عبارة أصبحت مستهلكة جداً، إلا أن الدخول في تفاصيل الاستغلال الذي يتعرض له المزارع هو حكاية أخرى. فإضافة إلى الإهمال الرسمي لقطاع يشغّل عمالة لا يستهان بحجمها، وإضافة إلى الأكلاف الزراعية الضخمة التي تجعل من المنتج الزراعي اللبناني خارج ميدان المنافسة مع المنتج الزراعي العربي، فإن المزارع يتعرض كذلك لاستغلال من نوع آخر: الوسيط التجاري!

رشا أبو زكي
يعاني القطاع الزراعي الإهمال الكبير في لبنان، وضحايا هذا الإهمال الأساسيون هم المزارعون والمستهلكون.
فالمزارع الذي ينتظر موسمه من عام إلى عام، ويعد «غلة» الموسم هي مصدر نفقاته التي سيقوم بها طوال العام، مصاب ببلوى الوسيط التجاري، أو «الكومسينجي» الذي يحصل على المنتجات الزراعية بأسعار بخسة من المزارع ويقتطع من هذه الأسعار نسبة 10% عمولة لبيع المحصول، ومن ثم يبيع الإنتاج إلى الباعة ومحال الخضر والفاكهة بأسعار قد تصل إلى أضعاف السعر الذي حصل عليه من المزارع! أما لبّ المشكلة، فهو مطلب قديم جداً، يرفعه المزارعون منذ فترة طويلة من دون أن يلقوا أي تجاوب، وهو إنشاء تعاونيات زراعية وأسواق، بحيث يستطيع المزارع بيع منتجه مباشرة إلى المستهلك...
وبين المزارعين، نموذج اسمه أكرم مهنا من البقاع، انتظر موسم البطيخ طويلاً، ليخرج بعد طول انتظار بخسارة وصلت إلى 70 ألف دولار، وبدلاً من أن يكون «عالسكّين» البطيخ... ذُبح موسمه وزهق تعبه! كيف؟

كلفة الإنتاج المرتفعة

يزرع أكرم مهنا في كل موسم 400 دونم من البطيخ لإنتاج 2000 طن من هذا المنتج، ويكلف كل دونم 6 آلاف ليرة للفلاحة و60 دولاراً لمدّ نبريج المياه لتوزيعها على الشتول، و65 دولاراً ثمن أكياس النايلون لتغطية الشتول بهدف خفض الرطوبة ومنع الحشائش الضارة من التراكم قرب الشتول. كذلك يكلف كل دونم 20 دولاراً شهرياً للمازوت الذي يخرج المياه من البئر.
أما عمال الزراعة فيكلفون 20 دولاراً على كل دونم شهرياً، ويدفع مهنا 10 دولارات ثمن كيماويات وسماد عربي، و25 دولاراً للسماد العادي.
ويضاف إلى هذه الأكلاف، بين 30 و35 دولاراً كلفة رش الشتول بالأدوية المضادة للحشرات والأمراض الفطرية، وبذلك يكون مجموع كلفة الدونم الواحد نحو 400 دولار شهرياً، أي ما يوازي 160 ألف دولار على الموسم لجميع المحصول! وكذلك، يدفع المزارع كلفة شحن منتجه إلى سوق بيع الخضر بالجملة في بيروت، أي ما يوازي 50 ليرة على كل كيلوغرام من البطيخ.
أما الإنتاج، فيتفاوت بين موسم وآخر. فقد استطاع مهنا هذا العام إنتاج 1650 طناً من البطيخ، وجرى بيع كيلو البطيخ في بداية الموسم بين 200 و250 ليرة للوسيط الزراعي، وفي نهاية الموسم وصل الكيلوغرام إلى ما بين 140 و150 ليرة، فيما يصل سعر كيلوغرام البطيخ في أول الموسم للمستهلك بنحو ألف ليرة، لينخفض في نهايته إلى ما بين 250 و500 ليرة.

ما هي نسبة أرباح المزارع؟

ملّ المزارعون من المطالبة بإنشاء أسواق أو تعاونيات زراعية لتصريف المنتج مباشرة
وإن كانت الكلفة مرتفعة إلى هذا الحد، فإن جملة عوامل تتداخل في سعر الكلفة، ليخلص مهنا هذا الموسم بخسارة. فعند شحن البطيخ إلى بيروت، يتلقف الـ«كومسينجي» (الوسيط التجاري) المزارع، فيأخذ المحصول ويجتزئ 10 في المئة من قسيمة بيع كل كيلوغرام إلى أصحاب محال الخضر والفواكه، وهنا يبيع الوسيط التجاري المنتج بالسعر الذي يريده إلى سوق المفرّق، ولكن اجتزاء عمولته يكون من السعر الذي حصل عليه من المزارع. فإذا تسلم الوسيط كيلوغرام البطيخ من المزارع بـ 200 ليرة، وباعه إلى سوق المفرّق بـ 300 ليرة، فهو لا يعيد إلى المزارع سوى 180 ليرة للكيلوغرام الواحد!
ويلفت مهنا إلى أن تجار سوق المفرّق لا يشترون مباشرة من المزارع، وخصوصاً أن الوسطاء التجاريين لهم باع طويل في السوق، ويستطيعون عدم استقبال المزارعين ووقف بيع منتجهم وقفاً كاملاً، ما يلحق الضرر بالمزارع أساساً، ويُفقد محال الخضر والفواكه المنتج!
وفي الحسابات النهائية، يشير مهنا إلى أن المزارع يتكلّف على الـ400 دونم نحو 160 ألف دولار، لكنه خسر هذا الموسم 70 ألف دولار! أما تعويض هذه الخسارة فهو في الموسم المقبل أو عبر بيع مزروعات أخرى قد تحقق أرباحاً تعدّل في ميزان الربح والخسارة. ويقول مهنا: «نحن المزارعين كمن يلعب القمار، سنة نربح وأخرى نخسر، ولا نعرف مسبقاً إن كانت الغلة ستكون وافرة أو خاسرة».
ويلفت إلى أن المزارعين ملّوا من مطالبة الحكومات المتعاقبة ووزارات الزراعة بإنشاء أسواق للمزراعين أو تعاونيات زراعية لتصريف المنتج مباشرة من المزارع إلى المستهلك، لافتاً إلى أن الوسيط التجاري أساسي لكي يستطيع المزارع بيع إنتاجه، لافتاً إلى أن القطاع الزراعي في لبنان يعيش فوضى كبيرة يدفع ثمنها المزارع والمستهلك على حد سواء. فمثلاً كيلوغرام البندورة يبيعه المزارع بـ80 ليرة للوسيط، فيصل إلى المستهلك بألف ليرة!

والمنافسة كذلك «عليهم»

لا تتعلق المشكلات فقط بارتهان المزارعين للوسطاء التجاريين، إذ يشير مهنا إلى أن المشكلة ترتبط كذلك بالمنافسة غير المتكافئة في السوق اللبنانية من المنتجات الزراعية العربية، وخصوصاً تلك الآتية من سوريا، شارحاً أن البطيخ السوري مدعوم في كلفة الإنتاج، وخصوصاً في أسعار البذار والمبيدات وغيرها، وبالتالي يأتي البطيخ السوري إلى لبنان بأسعار منخفضة تجبر المزارعين المحليين على خفض أسعارها إلى ما دون كلفة الإنتاج أحياناً... وإلا كان مصير الإنتاج الكساد!
ويلفت إلى أن ما يسمى «الروزنامة الزراعية» لا تحمي المزارعين؛ لأنها لا تطبق. فـ«الحدود فالتة، وليست مضبوطة كما يشاع». أما في ما يتعلق ببرنامج دعم الصادرات، فيؤكد مهنا أنه ليس لدعم المزارعين، بل كبار التجار. كذلك فإن البطيخ منتج يزرع في الأردن وسوريا والسعودية، وهذه الدول تنفذ إلى الأسواق العربية على نحو أسرع من المنتجات اللبنانية لاعتبارات عديدة.


30 ألف طن

هو حجم إنتاج البطيخ هذا العام، فيما كان يصل في السابق إلى 50 ألف طن تقريباً. وتتركّز زراعة البطيخ في البقاع والجنوب. أما الشمال، فقامت فيه محاولات لزراعة البطيخ، لكن لم تنجح بسبب قلة المحصول ونوعيته التي لم تكن جيدة.


أسواق المزارعين... الحل الغائب