حتى أواخر الستينيات من القرن الماضي، كانت مدينة النبطية الجنوبية لا تزال تشهد حركة زراعية لافتة، بالرغم من تحوّل وسطها إلى تجاري بامتياز، مع احتضانه لأسواق عديدة، منها سوقا الحدّادين والنحاسين. فقد واظبت مجموعات من الأهالي على زراعة التبغ في الحقول الواقعة جنوب حيّ السرايا القديم وغرب، المحاذي للوسط التجاري، الذي يفصله عن الحقول نهر شتوي متواضع يعرف بنهر «براغيت».إلا أن تضافر عوامل عديدة أدى إلى تراجع الزراعة في المدينة، منها تطور التجارة واتساع الحركة العمرانية، مع تنامي ظاهرة الهجرة إلى أفريقيا، إلى جانب تردي أوضاع زراعة التبغ مع بداية الحرب الأهلية عام 1975. هكذا، أصبحت الزراعة شبه معدومة في المدينة، واقتصرت على حقول يتيمة من التبغ غرب حيّ السرايا، بدأت تتراجع هي الأخرى إلى أن انقرضت تماماً.
كسرت فاطمة بدير، بنت النبطية التي أقامت فترة من حياتها في قرية زوجها عدشيت المشهورة بزراعة التبغ، النمط المديني لمسقط رأسها، بعد عودتها للإقامة فيه. على مدى أعوام متعاقبة، أخذت تزرع حقلاً قريباً من السرايا الحكومية، مركز المحافظة والقضاء، وتبيع ما تنتجه. لكن سرعان ما تحوّل الحقل إلى مرأب للسيارات، ومن ثم إلى محطة للركاب منذ نحو خمس سنوات، فبحثت فاطمة عن بديل ولم تجده إلا في خلف المحال والمؤسسات التجارية التي تزدحم في السوق. تسألها عن مفارقة الزراعة في وسط المدينة، فتضحك، ثم تردّ: «أنا أحببت هذه الأرض بسبب قربها من السوق. فهي تذكرني ببيوت النبطية وبساتينها التي كانت خضرتها تعمّ المكان، وروائح زهورها تنبعث من كل حدب وصوب. للأسف، المدينة أصبحت اليوم تلبس ثوب الأسمنت». إذاً، تدرك السيدة أنها تعاند الواقع، رغم أن «الإفادة قليلة» كما تقول، فالحقل صغير. «كان مجرّد بستان لأحد البيوت». إلا أنها لا تملك خياراً آخر لتعتاش منه هي وزوجها المصاب بالبكم. «النتيجة ليست على قدر التعب؛ لأن أسعار الخضار متدنية، لكنني لا أملك حلاً آخر. أكثر بيعنا يكون يوم الاثنين، موعد سوق النبطية الأسبوعي. في ذلك النهار، أبيع أحياناً بمبلغ يراوح بين خمسين ألف ليرة وسبعين ألفاً، لا أتلقى مثلها إلا في الأسبوع التالي عندما ينعقد السوق مجدداً».
يدرك جيران فاطمة أهمية ما تقوم به، ويستفيدون منه، فزرعها هي وزوجها خال من أي مواد كيماوية. لا تستخدم المزارعة الأسمدة لنمو الزرع. «معارفي من الجيران يشترون حاجاتهم مني، بعضهم يبحث عن التوفير، ولو بمئتين وخمسين ليرة، فيؤثر الوصول إلى الوسط التجاري الذي لا يبعد أكثر من مئة متر من هنا. لكن زبائني هم من يبحثون عن بضاعة نظيفة، وإن كان ثمنها أغلى بقليل».
ما تزرعه فاطمة وزوجها يختلف بين موسم وموسم، لكن في معظم الوقت، تشبه بسطتها حقلها المستأجَر بالضمان: لا تخلو من السلق، الهندباء (علت)، البقدونس، النعناع، البصل الأخضر، الخس، البندورة، إلى الفجل والروكا، الكزبرة، الرشاد، والسبانخ. قد تضطر أحياناً، إذا نفدت من حقلها بعض الخضار، «إلى الاستعانة بالحسبة. لا يخلو الأمر، لأن من يريد إعداد التبولة، يفضل شراء خضرتها من مكان واحد، وأنا لا أريد أن أخسر زبائني، فأعوّض النقص من السوق وأخبرهم بذلك، فيتفهمون الأمر».
بالإضافة إلى ما ينتجه حقلها، يرغب زبائن فاطمة في منتجات المواسم البرّيّة، لذلك تسرح السيدة في الحقول القريبة من النبطية التي لم يدهمها البناء بعد، فتسلّق «العلت» و «الحمّيض» وبعض البقول، وتبيعها مع ما تقطفه من حقلها.
أخيراً، تعثّر موسم النعناع في حقل فاطمة ولم يتحسّن بعد. «النعناع البلدي يتأخر عادة بسبب فصل الشتاء، يعسّ، مع أنني أزرعه في الموسم، لا أتأخر لحظة واحدة، لكن للطقس دور في تراجع الإنتاجية»، تشرح فاطمة، مؤكدة أنها ليست جديدة على الزراعة. «كنت أزرع الدخان (التبغ) أيام كنت أسكن في عدشيت». كان عمر فاطمة 12 عاماً يوم ذهبت إلى الحقل. «والدي من النبطية وأمي من كفرصير، وفي أيام طفولتي كنت أزرع، وأعبر نهر الليطاني «من قاطع لقاطع» لأجلب الحطب. رزق الله...».
أكثر ما يقلق فاطمة وزوجها هو أن يأتي اليوم، الذي تحلّ فيه أسنان الجرافة بدل أسنان المعول والشوكة والمشط، لتنذر بانطلاق ورشة بناء جديدة تقضي على آخر حقول المدينة الزراعية. «لا أستبعد أن يأتي يوم ويطلب مني أصحاب الحقل، أو من سيشتريه، الرحيل، لأن ثمة مركزاً للتسوق سينشأ في هذا المكان» تقول السيدة.