تشير نتائج الاستفتاء على الدستور إلى مشاركة كبيرة نظراً إلى الوضع الذي تمرّ به سوريا، لكنها في الوقت نفسه أقل مما كان متوقعاً، رغم التصويت القسري الذي تمثّل في أشكال عديدة. وهو بلا شك تصويت هزيل، ينمّ عن الحالة التي وصلت إليها السلطة، التي أصبحت بقايا شاحبة لـ«مؤيدين». فقد جرى التصويت على دستور «إمبراطوري»، يمكن تلخيص طبيعة السلطة التي يقررها بـ: السيادة للشعب الذي يتنازل عنها «طوعاً» للرئيس الذي هو فوق السلطات جميعاً، والضامن لها، من دون أن يحاسب من قبل أي من السلطات التي من المفترض أن تحاسب رئيس السلطة التنفيذية (الذي هو الرئيس)، مثل مجلس الشعب. هنا يلخّص الشعب بالرئيس، وهذا ما يتوضّح في الصورة التي تعمم منذ عقود. فهو فوق، ومستمر في ذلك.هذه هي الخطوة الأخيرة في الإصلاح كما رسمت في مصفوفة متوالية، لكنّها الخطوة الأخيرة في وضع سلطة لم يعد بإمكانها الاستمرار. فقد أصرّت على أن تبقى كما هي بالضبط. وكل التغيير الذي يهلَّل له لا يعدو أن يكون شكلياً، لأنّ حزب البعث وضع في المتحف منذ زمن، وبالتالي لا قيمة لشعب المادة الثامنة التي تنص على أنّ الحزب هو القائد للدولة والمجتمع، اللذين كان لهما قائد أوحد هو الرئيس. و«التعددية السياسية» التي تقررت كإنجاز كبير، لا تعدو أن تكون إضافة لغوية. فمن يقرر حق الأحزاب الجديدة في ممارسة نشاطها هو السلطة التنفيذية التي هي طرف وليس جهة محايدة كما يجب أن يكون. بمعنى أنّ الذي يقرر هو حزب/ سلطة هو في تساوٍ مع أي حزب جديد أمام القانون كما يُفترض. ولذلك كان يجب أن تقرر هيئة دستورية مستقلة حق أي حزب في ممارسة نشاطه. وبالتالي ظل رضى السلطة هو الأساس في قبول الأحزاب أو رفضها. والإصرار على البقاء في الهيكلية ذاتها يعني أنّه لا يمكن امتصاص أي من عناصر الأزمة التي فجّرت كل هذا الصراع.
لكن، لا معنى لكل هذا التصويت والإصلاح أصلاً، إذ إنّ وضع السلطة بات صعباً للغاية، رغم كل العنف الذي تمارسه، وإعلانها بأنّها قد بدأت عملية الحسم، واحتلت بابا عمرو. وسيكون كل ما جرى نافلاً مثل رزمة الإصلاحات التي أعلن عنها. وربما أوضح شحوب التصويت هذه النهاية.
طبعاً، رغم تصعيد الميل إلى تحقيق الحسم، فإنّ متحوّلات أساسية فرضت نفسها على وضع السلطة، تشير إلى أنّها لم تعد قادرة على الاستمرار. فالسلطة قررت أن تستمر كما هي، في ظل دعاية تدّعي أنّها تتغيّر. ولكن الأهم هو التحوّلات، في الواقع. فما ظهر من خلال الاستفتاء هو أنّ تحولاً كبيراً طاول الفئات التي كانت تدافع بشراسة عن السلطة بداية الانتفاضة. فالفئات التجارية (في دمشق وحلب خصوصاً) باتت ترى أنّ الركود الاقتصادي والتضخم يوديان بوضعها، ويقودان إلى انهيارها. كذلك الفئات الوسطى التي كانت مستفيدة من النمط الاقتصادي الذي شكلته الرأسمالية الحاكمة (النمط الريعي)، تجد أنّ استمرار الوضع على ما هو عليه يدمّر وضعها. لذلك بات لسان حالها يقول «بدنا نخلص»، أي «لا بد من الرحيل»، ما دامت السلطة لم تستطع إنهاء الانتفاضة. وهذه هي القاعدة الاقتصادية التي اتكأت عليها السلطة، ودعمت الشبيحة لأشهر. كذلك نلاحظ تحرّك الساحل الذي جرى الدفع العنيف من قبل السلطة لإبقائه متماسكاً حولها، إذ إنّ كل تمرّد هنا يعني فقدان كلية تماسك السلطة.
يعني ذلك أنّ خيار الرحيل بات عاماً. وستبدو السلطة كذلك في وضع مأزوم إلى حدّ كبير، إذ فقدت قدرتها المالية، وباتت عاجزة عن توفير السيولة الضرورية لاستمرار مقدرتها على الصراع. لذلك أغرقت السوق بعملة من دون رصيد، ما أفضى إلى بدء انهيار الليرة، إذ فقدت إلى الآن ما يقارب 50% من قيمتها، وهو الأمر الذي يعني ارتفاعاً في الأسعار يزيد من توتر كل الطبقات، الشعبية وغير الشعبية منها. لكن ذلك يعني ميل الدولة إلى الإفلاس المالي، إذ لا تزال مضطرة إلى طباعة المزيد من العملة، وبالتالي تحقيق المزيد من الانهيار وارتفاع الأسعار نتيجة التضخم. لقد باتت ميزانية الدولة بدون مداخيل كافية، وهو الأمر الذي سيدفع إلى انهيار اقتصادي شامل.
إذاً، لا شعبية للسلطة الآن، وهي باتت أيضاً على شفا الإفلاس، لكنّها تخوض حرباً شاملة من أجل حسم الصراع، ربما بسرعة قبل الوصول إلى لحظة الانهيار. لكن لا يبدو أنّ الحسم العسكري في بعض المناطق، مثل بابا عمرو أو إدلب، يمكن أن يوقف الانتفاضة، التي باتت تتوسع (فلم يعد ممكناً المباهاة بأنّ حلب ودمشق هي مع السلطة). لكن نلاحظ أيضاً أنّه حتى الوضع العسكري للسلطة لم يعد مريحاً، لا نتيجة تصاعد استخدام السلاح ضدها، بل لأنّ الاحتقان بات أعلى في كل الجيش. وربما نشهد تحوّلاً في وضع المؤسسة العسكرية، لكن سيكون واضحاً أنّها لم تعد قادرة على إنهاء الانتفاضة.
لقد أتت محاولة الحسم العسكري لكي توقف كل هذا الانهيار في وضع السلطة، لكن الأمور لا تسير في هذا الاتجاه. الأهم هنا هو أنّ السلطة باتت تعتمد اعتماداً كلياً على «الخارج»، سواء عبر الحامل الروسي الذي بات يعمل مباشرة على الأرض، أو من خلال التحالفات الإقليمية التي استنفرت كلّ مجهودها لكي تحمي حليفها. وفي هذا السياق، يأتي حشد «الإعلاميين» و«السياسيين» اللبنانيين والأردنيين، الذين باتوا كأنّهم في «حرب تحرير» شاملة ضد الانتفاضة والشعب السوري. كل ذلك تجاوزه الزمن، وربما نكون قد أصبحنا في لحظة تحوّل
كبيرة.
* كاتب عربي