في غمرة الأحداث الأمنية المندلعة في سوريا منذ نحو عام، في ما عُرف بـ«الثورة السورية» عند البعض، وبالمؤامرة الخارجية عند البعض الآخر، كانت أنظار القوى المحلية والإقليمية والدولية تتطلع إلى الجيش، متسائلة عن الدور الذي يمكن أن يؤديه في التطوّرات الجارية. المؤيدون للنظام يرون الأحداث مؤامرة خارجية أساساً. راهنوا على الجيش كعماد سيتصدى لـ«المؤامرة»، وهم واثقون من أنّه سيحمي سوريا ونظامها الذي رعى الجيش، وميّزه عن بقية قطاعات المجتمع. وكان هؤلاء متأكدين من ولاء الجيش للسلطة الحاكمة، ومن قدرته على تجاوز الأحداث متماسكاً من دون انشقاقات أو انقسام.المعارضون للنظام الذين يرون الأحداث «ثورة سورية»، راهنوا على انقسام الجيش كأداة رئيسية للسلطة وحاميها الأول، وحاولت دول عربية وأجنبية إحداث انقسامات في الجيش، وشقّه وصولاً إلى إسقاط حكم الرئيس السوري بشار الأسد، بحسب الشعارات التي رُفعت في مختلف مراحل الأحداث. وكان ما اصطلح على تسميته «الجيش السوري الحر» تعبيراً عن تلك المحاولات، غير أنّ الرهان على انقسام الجيش قد سقط في منظور العلم العسكري، رغم فرار الكثير من جنوده من رتب مختلفة، لكن جلّها في المراتب الدنيا في الهرم العسكري. ولم يكن لـ«الجيش السوري الحر» أن يأخذ أي دور لولا رفده بقوى وعناصر وعتاد من الخارج. وما حدث حتى الآن هو انقسامات فردية لم تتعدّ المجموعات الصغيرة، بينما كان المطلوب في العلم العسكري انشقاق فرقة أو أكثر، مؤلفة ممّا لا يقل عن 15 ألف عسكري لكي يقال إنّ انشقاقاً حصل في الجيش، ما يمكن إدراجه في خانة إضعافه، ففكفكته، بالتالي إفقاد السلطة لعنصر حمايتها الأول. جلّ ما حصل عمليات فرار لم تؤثر في سير الأحداث، ولا أثّرت على صلابة المؤسسة العسكرية وولائها للنظام ورأسه.
ويتساءل الجميع عن سبب قدرة الجيش على التماسك والبقاء موالياً للدولة رغم وجود ضغوط داخلية وخارجية عليه. أليس أفراده أبناء الشعب الذي يروي الإعلام عن تنكيل قوى السلطة به؟ لماذا لم يتفكك الجيش؟ وما العناصر التي أبقته سليماً رغم انخراطه في الأحداث وتوليه قيادة لجم التحركات وضبطها من درعا إلى إدلب فحماه، وأخيراً في أعنف المعارك في حمص؟
ما الذي يجعل الجيش السوري بهذا التماسك والولاء لقيادته السياسية وهو يخوض اليوم الحرب الثانية من نوعها في الداخل، بعد الحرب الأولى مطلع الثمانينيات؟ لماذا لم يصحّ في سوريا ما صحّ في لبنان من انقسام وتفكك للجيش خلال الحرب الأهلية، رغم أنّ الجيش اللبناني لم يأخذ أي دور في الحرب، وأبقته الحكومات بمنأى عن الانخراط بالأحداث تحت شعار منع انقسامه؟
لقد اعتاد الجيش الانقلابات وسيلةً للاستيلاء على السلطة، منذ أن وصل ضابط الريف إليها، فأضحى استسلام العسكر للسلطة تقليداً سائداً في الوطن العربي، وتحديداً في سوريا، حتى أصبحت كلمة الجيش تعني الانقلاب.
كانت واحدة من أهم سمات وتسميات الجيش السوري (إطاحة الحكم) حتى 1970، حين وصل إلى الحكم ضابط، واضعاً حداً لتلك الحقبة، أو منهياً مسلسل الانقلابات. عمل بفطنة على تحويل المؤسسة العسكرية إلى حامٍ فعلي للسلطة، فتلافى ذلك الخطر، وأعاد هيكلة الجيش بنحو يضمن استقرار نظامه واستمرار حكمه بنحو يتماهى معه في كل خطواته، وقراراته، وحتى مصيره، وهو العقدة اليوم. لم يكن مفاجئاً بقاء النظام متماسكاً بها القدر من القوة والمنعة طوال الأشهر المنصرمة، فالعارفون بخبايا تركيبته الحديدية، يدركون أهمية هيكلية الجيش كمؤسسة مغلقة، ومدى ارتباطها بالسلطة. ويفسر ذلك صلابة النظام في مواجهة التحديّات المحدقة به، من كل حدب وصوب.
إنّ المؤسسة العسكرية مثّلت صمام أمان للنظام، ليس في الأشهر الماضية فحسب، بل على مر العقود. فالتزاوج بين السلطة والجيش من أبرز عوامل القوة لديه، وهذه ميزة تفرّدت بها عن سائر أنظمة المنطقة.
إنّ تركيبة الجيش السوري مستنسخة عن جيوش المنظومة الاشتراكية، وتحديداً كوريا الشمالية من حيث البنية والتركيب والتعبئة، حيث يدين العسكر للرمز. عموماً، هذا تقليد في الشرق.
والجيش السوري مبني كشبكة عنكبوت، وحيك بعناية فائقة كتيبة تلو الأخرى، لا تدرك أوله من آخره، لا تعرف من أين يبدأ ولا تعرف أين ينتهي، يعمل ضمن آليات غير متسلسلة وممنهجة بنحو مضبوط لا يلتقي فيه ثلاثة ضباط على رأي. فيه ألوية مفصولة تماماً عن الجيش النظامي، وتعرف بالوحدات الخاصة، وكذلك الحرس الجمهوري والفوج 14 والسرية 215 «سرية المداهمة»، وكذلك الأجهزة الأمنية. وثمّة خمسة أجهزة أمنية تعمل باستقلالية، وكل جهاز مفصول عن الآخر. كلّ يعمل بمفرده. فالحلقات الأربع: الجيش النظامي، الوحدات الخاصة، الأجهزة الأمنية، الحرس الجمهوري، تعمل بطريقة عناقيد العنب، ويمكن أن تمثّل كل خصلة عنقوداً مستقلاً، ويكون التنسيق فقط عند الساعة الصفر لضبط الحركة والنار.
والذي يجمع هذه الوحدات المستقلة ارتباطها الأساسي بقيادتها المتمثلة برئيس البلاد الذي تمكنت الآليات الحزبية من جعله رمزاً وقائداً، له كامل الولاء والطاعة. فانخراط الشباب في المؤسسة العسكرية أو في صفوف الحزب يخضعهم لتعبئة فكرية وثقافية ووطنية تربطهم بالمؤسسة وبالدولة التي تتمثّل برئيس البلاد.
أما الرئيس (حافظ الأسد سابقاً ثم بشار) فهو القادم من المؤسسة العسكرية إلى السلطة، وهو ابنها، وهو مدرك لأهمية الجيش في الحفاظ على الحكم، ومعتمد عليه كوسيلة أمان لحكمه. لذلك، يمنح الرئيس الجيش ثلاثة أرباع الاهتمام اليومي، ويجتمع بقيادته ومسؤولي وحداته وفرقه ويطّلع منهم على مختلف الأمور والاحتياجات العسكرية، ويتبادل معهم الآراء في مختلف الأمور السياسية والعسكرية والحزبية، الداخلية منها والخارجية. هم شركاء في كل خطة، وهمومهم هي الهموم عينها، وتطلعاتهم السياسية والوطنية هي عينها. بذلك، تصبح الرئاسة في الجيش، والجيش في الرئاسة، والرئاسة رمز السلطة ووحدتها، ويتحوّل الجيش والسلطة إلى حالة واحدة مسبوكة ومنصهرة، في وحدة متراصّة من دون أن يكون الجيش هو الحاكم المباشر للبلد. ومن العناصر التي تزيد الجيش تماسكاً والتفافاً حول قيادته السياسية، البنية الثقافية والأيديولوجية الحزبية التي تبني المؤسسة على قاعدتها.
ويُختار الضباط بعناية فائقة بإشراف مباشر من مكتب شؤون الضباط التابع لشعبة الاستخبارات العسكرية، ولا يمكث الضابط طويلاً في وحدته، فتجري مناقلات وتبديل كي لا تبنى علاقات شخصية بين الضباط والعسكر. ومن المهم عدم وجود مراكز قوى في المؤسسة العسكرية.
وعلى صعيد التدريب، الجيش السوري النظامي من أكثر الجيوش تدريباً ونظاماً وانضباطية، وتخصص له نسبة عالية من موازنة الدولة هي الأكبر من موازنات القطاعات الأخرى.
ورغم الأحاديث المتداولة إعلامياً، وعلى صعيد عام بشأن اختيار قيادات طائفية له متوافقة مع الطائفة التي ينتمي الرئيس إليها، أي الطائفة العلوية، ظهر أنّ ذلك الكلام مضخم، وربما فيه كثير من التجنّي؛ فقيادة المؤسسة العسكرية لا تخضع لشروط طائفية. لذلك، كان القائد العام للجيش سنيّاً وعلوياً ومسيحياً وكردياً في أوقات مختلفة. ولم ينحصر الموقع مرة واحدة بطائفة أو فئة معينة.
والجيش مقسّم إلى خمسة أقسام رئيسية: ثلاثة قيادتهم من السنّة واثنان من العلويين راهناً، من دون أن يكون هذا التوزيع شرطاً دائماً لمراكز القيادة. وبذلك تسقط كل المقولات عن أن الجيش مقسّم ومبني ومعبأ على قواعد طائفية. وعلى العكس، فتركيبته وطنية تجد جذورها في كل فئات الشعب، من دون تمييز طائفي أو مناطقي أو عرقي.
من جهة ثانية، لم تستطع الاستخبارات الخارجية اختراق الجيش، وإحداث ولاءات لها في داخله. ذلك أنّ سوريا تكاد تكون الدولة الوحيدة التي لا ترسل بعثات عسكرية إلى أوروبا بهدف التدريب، وتكتفي بتبادل الخبرات مع روسيا وكوريا والجزائر، وإجراء دورات أركان مشتركة مع بعض البلدان العربية، وهذا يقلل من اختراق الجيش وضباطه.
لذلك، لم يكن من السهولة تفكيك الجيش أو انشقاقه، لا بل إنّ تماسك المؤسسة العسكرية انعكس إيجاباً على كافة المؤسسات، وخاصة السياسية منها، ما سهّل على النظام إدارة الأزمة، مستنداً إلى جيش قوي، ودبلوماسية هادئة، عملا معاً في تناغم كلّي، خطوة تلو الأخرى، لاستيعاب الهجمة الشرسة بالأسلوب القديم _ الجديد، عبر الاستدراج والحصار، والقضم، والمماطلة والتسويف، فإطالة عمر الأزمة يدخل الجميع في عنق الزجاجة، ويحوّل الأزمة إلى عبء كبير بأكلاف باهظة، وبنهاية الأمر سينتصر الأكثر صبراً وتماسكاً. وهنا تكمن أهمية الجيش.
لا شك في أنّ نجاح الثورات في بعض البلدان، وتهاوي أنظمتها بسرعة البرق، لم يكن بفعل الحراك الشعبي فقط، إنما يعود إلى انحياز الجيش لها. أما في سوريا، فالأمر مختلف تماماً ومغاير لطبيعة الصراع والواقع الذي ليس هو الآن موضوع بحثنا.
ومهما قيل عن طبيعة الصراع في سوريا، صراع بين السلطة والشعب، أو انقسام الجمهور في ولائه، أو مؤامرة، أو ثورة، فهذه أمور قد نختلف عليها، ولكن ليس حول عقيدة الجيش الوطنية، ولا حول ولائه للنظام.
* كاتب لبناني